أولا: الشهابية...
كان الرئيس الراحل فؤاد شهاب رجل دولة من خارج نادي السياسيين، ورث عام ١٩٥٨ دولة خارجة للتّو من حربٍ أهلية، وتمزُّق داخلي حول هوية لبنان ودوره العربي في ظل تصادم الاحلاف العسكرية في العالم العربي ومحاوره المختلفة، دولة "مزرعة" ومحسوبيات وعشائر وزعاماتٍ تائهة بين العروبة والانعزالية، فنهض بهذه الدولة برؤية حداثية طالت مختلف الجوانب والقطاعات، وأعمل مبضع الإصلاح والتحديث في الإدارة والمؤسسات الدستورية، فضلاً عن إنشاء المؤسسات المالية والرقابية: مصرف لبنان ومجلس الخدمة المدنية، التفتيش المركزي وديوان المحاسبة، وطال التحديث مشاريع الإنماء وخاصة للمناطق الريفية والأطراف المهملة، فأنشأ المشروع الأخضر والمؤسسات العامة التي ترعى شؤون الطاقة والزراعة والصحة والعمل والتربية والقضاء والحريات العامة، ويكفيه فخراً أنّه استقال من منصب رئاسة الجمهورية في ٢٠ تموز عام ١٩٦٠ زُهداً في الحُكم، وفسحاً في المجال للسياسيين المدنيين، وشهاب لم يكن له ولد أو أقارب ليزُجّهم في المناصب الحكومية والإدارية، ولم يكن له حزب أو تيار سياسي، لم يُوفّر أياً من رجال السياسة من النقد والتصويب، لم يكن على اتصال مباشر بالشعب (وهذا عُرفٌ كرّسه ليبقى بعيداً عن التجاذبات الظرفية)، إلاّ أنّ انجذاب الناس إليه كان ملفتاً للنظر. وكان شهاب يُؤثر الصمت المثمر على المواكب والمهرجانات، والخُطبّ الطّنانة، كان رجل دولة لم يترك كلمة مكتوبة، أو مذكرات وتوصيات أو خطابات فارغة، لم يرُدّ يوماً على تحدٍّ أو تجريح، لذلك كله ظلت الشهابية خالدة كنهج وجود سيادي وإنمائي للدولة، ومدرسة رائدة يعود إليها معظم الباحثين والإصلاحيين في تاريخ لبنان الحديث، وبات شائعاً وسائداً على ألسنة الجميع عبارات: النهج الشهابي، الدولة الشهابية، المدرسة الشهابية. 

اقرأ أيضا : تطبيقات الحكومة الذكية لم تطل سلسلة الرتب والرواتب.

ثانياً: العونية...
لم يمر في تاريخ لبنان المعاصر شخصية عسكرية وسياسية وصلت إلى سدّة الرئاسة الأولى كشخصية الرئيس الحالي ميشال عون، فمسيرة عون مليئة بالتناقضات الصارخة، والتجاذبات الحادة، فقد ظهر الضابط ميشال عون ضمن الطاقم المقرّب للرئيس الراحل بشير الجميل إبان الاجتياح الإسرائيلي، وكان له دورٌ بارز في الحرب الأهلية كقائد عسكري في مواجهة مباشرة مع القوات المشتركة (التحالف الفلسطيني مع الحركة الوطنية). ثم سطع نجم الجنرال عون كقائد للجيش يتولى رئاسة حكومة عسكرية (غير ميثاقية بمفهوم عوني باسيلي لاحق)  بعد خلو منصب الرئاسة الأولى واستقالة الوزراء المسلمين، لينخرط بعد ذلك في حروب عبثية مع السوريين وحلفائهم تارة ،ومع القوات اللبنانية طوراً آخر، لينتهي به الأمر فاراً من القصر الجمهوري ثم نحو المنفى الباريسي الذي استمرّ خمسة عشر عاماً، وقد تحلّقت حوله جموع كبيرة تعاطفت مع نهجه في مقارعة الوجود السوري، ونشأ من رحم المواجهة هذه التيار الوطني الحر الذي غالباً ما يُختصر بالتيار العوني، وقاد الجنرال عون من منفاه حملة مناهضة "للاحتلال السوري"، ونسب لنفسه دوراً حاسماً في إصدار القرار ١٩٥٩ الذي يطالب بالانسحاب السوري وحلّ الميليشيات والقضاء على النفوذ الإيراني، ليعود بعد ذلك إلى لبنان بمباركة سورية، وينتهي به المطاف بين أحضان حزب الله بتفاهمٍ مكتوب والتزام تام بنهج المقاومة والممانعة في مسارٍ مغاير مع تاريخ الرجل السياسي والعسكري، وقد تمكّن أخيراً من الوصول إلى سدّة الرئاسة الأولى بفضل هذا التفاهم، لكنّه بات مُقيّداً بتفاهماتٍ عدة، تفاهمات متباينة ومتصادمة في غالب الأحيان، تفاهم مع حزب الله، وآخر مع القوات، وآخر مع تيار المستقبل، مع ميلٍ شديد لممالأة النظام السوري، ومراعاة شكلية لخاطر السعودية، وتأييد ضمني للعسكر في مصر، حتى جاءت ثالثةُ الاثافي : تصريح الرئيس عون بضعف الجيش الوطني، ومشروعية المقاومة في امتلاك قرار الحرب والسلم في البلد ،هذه المقاومة التي تقتات يومياً من أحشاء الدولة "الهشّة" التي يرأسها رئيس "قوي".
شتّان بين النهج الشهابي والنهج العوني، هذا إذا صحّ إطلاق تعبير "نهج" على المسار العوني، هذا المسار الذي يمتاز بالانتقائية والانتهازية والتردُّد والتفريط بالثوابت الوطنية والسيادية.                                                                                                            ً