هناك أكثر من مؤشر على ان الظروف القائمة حاليا مناسبة جدا لتمتين العلاقات اللبنانية السعودية على المستوى الاقتصادي. وهذا ما يفسّر الاندفاعة السعودية في اتجاه لبنان، والتي قد تكون تأثرت سلباً ببعض التصريحات، لكن الحاجة اليها قد يُساعد على تجاوز مفاعيل بعض المطبات، اذا لم يطرأ ما ليس في الحسبان.قد تكون هناك دوافع سياسية ساهمت في اعطاء دفع للعلاقات اللبنانية-السعودية قبيل اجراء الانتخابات الرئاسية في لبنان وبعدها. لكن الى جانب هذه الدوافع، هناك اسباب ومعطيات اقتصادية، ساهمت في تكبير حجم الاندفاعة السعودية باتجاه لبنان.

تشهد السعودية منذ فترة ما يشبه «الانتفاضة» على مستوى تطوير الاقتصاد، وتحويله الى اقتصاد متحرّك ومنفتح وديناميكي، لا يعتمد فقط على انتاج النفط. وفي هذا الاطار، جاءت رؤية العام 2030، والتي تركّز على مستقبل الاقتصاد السعودي في حقبة ما بعد النفط.

في موازاة ذلك، تستخدم السعودية الاقتصاد كبوابة عبور نحو مساعدة المجتمع السعودي على المزيد من الانفتاح، وهي تأمل بأن يكون الاقتصاد رائداً في قيادة المجتمع نحو تجاوّز بعض المعوقات القديمة، التي باتت الحاجة الى تذليلها اكثر من ضرورية في حقبة يشهد فيها العالم المزيد من التشكيك في مقومات التعايش بين الحضارات.

انطلاقا من هذا المبدأ، يمكن تفسير الحماسة السعودية لاعادة الانفتاح على لبنان، خصوصا في الشق الاقتصادي. ولطالما كان المجتمع الاقتصادي اللبناني جسر عبور بين الشرق والغرب. هذا لا يعني ان السعودية تحتاج الى اللبنانيين للانفتاح على الغرب اقتصاديا، فهي سبقت لبنان في هذا المجال، لكنها قد تحتاج اللبنانيين لمساعدة السعوديين على التأقلم مع مسيرة الانفتاح الجديدة.

ولا شك في ان اعطاء مساحة اوسع للمرأة في الحياة الاقتصادية، يساعد على تمهيد الطريق امام الانفتاح المجتمعي على الصعد كافة. وقد تجلّت الارادة السعودية في هذا الاتجاه، من خلال دعوة سيدات اعمال لبنانيات الى السفارة في بيروت، الى جانب رجال الاعمال، وجرى تركيز إعلامي على هذه النقطة.

في الداخل السعودي، تتسارع الخطوات الاقتصادية الانفتاحية، ومن ضمنها اختيار سيدة لترؤس الشركة التي تدير البورصة السعودية، وهي خطوة متقدمة، خصوصا ان الأدوار القيادية للنساء في العالم في هذا المجال قليلة جدا.

ويُظهر تقرير صادر عن "ديلويت" للاستشارات أن نسبة السيدات اللواتي استأثرن بمقاعد إدارية في المجالس المالية والمصرفية لم تتجاوز 12% على الصعيد العالمي، فيما ينحصرعدد النساء اللواتي يترأسن المجالس الإدارية نسبة 4% عالمياً فقط.

وسوف تدير سارة بنت جماز السحيمي شركة "تداول" التي تشرف على البورصة السعودية، وهي اكبر بورصة في العالم العربي. وتبلغ قيمتها السوقية حوالي 1300 مليار دولار . وتحتل المرتبة 21 على مستوى العالم، بحسب تصنيف الاتحاد العالمي للبورصات، حيث يتم تداول 283 مليون سهم يومياً بمعدل 71 مليار سهم سنوياً، بقيمة تداول تصل الى حوالي 2.5 مليار دولار يومياً.

ومن اجل تكوين فكرة عن حجم هده البورصة نشير الى ان القيمة السوقية لبورصة بيروت لا تتجاوز الـ10 مليارات دولار، ويتم التداول سنويا بحوالي 108 مليون سهم، أي ما نسبته 40 في المئة مما يتم تدواله في يوم واحد في البورصة السعودية.

مؤشر اخر صدر في السعودية تمثل بتعيين سيدة على رأس بنك "سامبا" وهو ثاني اكبر مصرف في المملكة، من حيث الرأسمال (5.3 مليارات دولار) . تكمن اهمية هذه الخطوة ان الحكومة السعودية تملك قرابة نصف بنك "سامبا"، بـ22.9% لصندوق الاستثمارات العامة، و15% للمؤسسة العامة للتقاعد، و11.8% للمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، بما يؤكد وجود قرار رسمي في اتجاه الدور الانفتاحي.

الى جانب كل هذه الخطوات، يأتي إصدار الحكومة السعودية لسندات دين في الاسواق المالية العالمية بمثابة تأكيد على إرادة الانفتاح الاقتصادي وتجاوز الاعتبارات المتعلقة بالنظرة الى موضوع الفوائد.

هذه المعطيات توضح نسبيا خلفيات التعاون السعودي مع الجانب اللبناني في هذه الحقبة. وتبدو الفرصة سانحة لإنجاز خطوات جبارة في مجال تدعيم العلاقات الاقتصادية والمالية الثنائية، وبالتالي، من الظلم ان يتم تضييع هذه الفرصة من قبل الجانب اللبناني، لأنها قد لا تتكرّر لاحقا.

 

(انطوان فرح - الجمهورية)