كانت ثلاثة شهورٍ قد انقضت على بدء إعداد الأزهر لمؤتمرٍ عن «المسيحيين والمسلمين في العالم العربي؛ الحرية والمواطنة... التنوع والتكامل»، يحضره مئاتٌ من المسيحيين والمسلمين العرب وضيوف من العالم الإسلامي والعالم الغربي؛ وإبان وصولنا إلى مصر لحضور الملتقى خرجت صُوَر وأخبارُ تهجير المسيحيين المصريين من مدينة العريش، بعد أن قتل «داعش» أو تنظيم بيت المقدس أو ميليشيات مَنْ هبَّ ودبّ عدة أفرادٍ منهم، وهدَّد باستهداف آخرين. وقد قالت لي سيدة كويتية تعرفتُ عليها في الطائرة إنها فوجئت وفُجعت بمناظر العائلات المهجَّرة التي وصلت إلى مدينة الإسماعيلية وكنائسها. جاءت مفاجأتُها من شدة الشبه بين المسيحيين والمسلمين المصريين في اللباس وفي التصرف. أما الفجيعة فبسبب حالة الفقر والعوز والذعر والشبه بين طوابير مهجَّري مسيحيي مصر، وطوابير مهجَّري سوريا والعراق من المسيحيين والمسلمين!
لقد أُصبنا بالذعر جميعاً بسبب ما حدث للإيزيديين. لكنّ المسيحيين يهجرون ديارهم بالعراق (وهم أقدم الجماعات المسيحية بالمشرق) جماعاتٍ ووحداناً منذ سقوط صدام حسين، وتنكُّر جيرانهم المسلمين لهم، والاعتداء على ممتلكاتهم وحيواتهم.
وما كنتُ أسمع عن تذمراتٍ للمسيحيين المصريين إلاّ من «أقباط المهجر» كما يُسمَّون. لكنّ بعضهم أعلن عن ذلك في زمن السادات الذي نفى البابا شنودة إلى وادي النطرون، وصار يتدخل في ترتيباتهم الدينية الداخلية. بيد أنّ الأحداث المقلقة إنما ظهرت بعد الثمانينات من القرن الماضي حينما صار أفرادٌ من الجمهور بأعذارٍ مختلفة يعتدون على المسيحيين في كنائسهم وممتلكاتهم في الأرياف، ثم في حواشي وضواحي المدن، وفي قلبها.
إنّ المقلق في هذا الأمر الذي أوشك أن يصبح ظاهرة، هو التحجج بالدين في الهجوم على المسيحيين. وعندما حدثت الثورة السورية، وتفاقمت الأحداث بين النظام ومعارضيه، وجد المسيحيون السوريون أنفسهم بين نارين. وقد انضمت قلة منهم للثورة، بينما آثرت الغالبية الحياد. وعندما سيطر المسلَّحون باسم الإسلام على الثورة، سارع المسيحيون إمّا إلى الهجرة عبر لبنان، وإما الدخول مع النظام. وما كان هناك في تاريخ الأنظمة العسكرية والأمنية العربية نظام سياسي عربي لعب على مسألة الأقليات مثل النظام السوري. ويرجع ذلك إلى أنّ زعيم النظام نفسه أعني حافظ الأسد، ينتمي إلى أقلية دينية هي الأقلية العلوية. ومنذ النصف الثاني من السبعينات، بدأت الأحاديث الخفية ثم العلنية عن النظام السوري بوصفه حامياً للأقليات المسيحية والشيعية والدرزية وفي سوريا ولبنان. وكما هو معلوم فإنّ الزعماء المسيحيين اللبنانيين عندما تضايقوا في الحرب الداخلية (1975 - 1977) قسّموا أنفسهم إلى قسمين: قسم استغاث بحافظ الأسد، وقسم استغاث بإسرائيل. وتدخلت الدولتان في لبنان بهذه الحجة، أي للزعم بكف عادية المسلمين والفلسطينيين على المسيحيين. وقد أنهى العرب الحرب الداخلية بلبنان عام 1989 - 1990 باتفاق الطائف. لكنّ مخاوف المسيحيين لم تنته، وظلُّوا يتطلعون إلى الحماية التي كان العنوان فيها مجهولاً، بمعنى أنه ما كان هناك اضطهادٌ لهم من جانب أحدٍ من المسلمين، وإنما صار الحديث يجري عن حماية الحقوق السياسية أو حماية سلطتهم الموروثة من زمن الفرنسيين. أمّا الآن، بل ومنذ غزو العراق، وحدوث الاضطراب في سوريا؛ فإنّ العنوان صار واضحاً: الاضطهاد من جانب الراديكالية السنية، والحماة هم الإيرانيون وميليشياتهم والنظام السوري وميليشياته. وقد تضاءلت المعارضة الوطنية المسيحية لهذا التوجه الأقلوي، وصارت الغلبة لفكرة تحالف الأقليات التي يقودها تيار الجنرال عون رئيس الجمهورية اللبنانية الحالي. وقد مضت سنواتٌ منذ مقتل الرئيس الحريري كان خلالها الجنرال يُسوّي بين السنة والدواعش!
بين الحقائق والأوهام وحملات التحريض والاستهداف إذن، ظهرت المسألة المسيحية وتفاقمت، وصارت تشبه «المسألة الشرقية» في أواخر أيام السلطنة العثمانية. فالمسألة الشرقية أبرزت إلى الواجهة قضية «الرجل المريض» العثماني، وتقع في مقدمة مشكلاته مسائل الأقليات الأرمنية والمسيحية والكردية... والأقليات الدينية والإثنية بعامة. ووجوه فشل تجربة الدولة الوطنية العربية، والغزو الأميركي للعراق، وظهور التطرف الإسلامي؛ كلُّ هذه المشكلات وضعت في الواجهة من جديد مسائل الأقليات ومن يحميها، وتدخلات القوى الغربية من أجل ذلك.
بين «القاعدة» و«داعش»، رأت الدول العربية، ورأت المؤسسات الدينية أنه لا بد من التصدي للتطرف والإرهاب. وإلى جانب السياسات الأمنية، ظهرت «سياسات الدين». وقد بدا هذا الوعي في مؤتمر الأزهر عام 2014 والذي دُعي إليه مسيحيون عربٌ كثيرون، وقال بيانه الختامي إنه لا بد من عملٍ عربي وإسلامي من أجل المواطنة وحقوقها، وتجديد العهود والعقود بين المسلمين والمسيحيين في هذه المنطقة العريقة.
إنّ المتغير الأساسي الحالي في المسألة المسيحية بالمشرق، هو ضعف الدولة الوطنية أو تلاعبها بالعلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وأخيراً التدخلات الخارجية السياسية والعسكرية، وماذا تستطيع الجهات الدينية أن تفعل، باعتبار أنّ الدواعش والمتطرفين إنما يتصرفون بذرائع دينية. فعلى الدولة أن تحمي مواطنيها بغضّ النظر عن أديانهم. وما حدث في الموصل عام 2014 مَثَلٌ على ضعف السلطات، بل وتلاعبها. فقد فرّ الجيش العراقي الضخم من وجه ثلاثة آلافٍ من «داعش»، وترك السنة والمسيحيين لمصيرهم في هجمة «داعش» الصاعقة.
وكما سبق القول فإنّ الأزهر بدأ منذ مؤتمر التطرف والإرهاب عام 2014 يصوغ سياساتٍ للدين أو للعلاقات مع المسيحيين تتضمن عدة خطوات: تجديد عقود وعهود الشراكة والعيش المشترك، وحث الدولة الوطنية على انتهاج سياسات مواطنة وعدالة وأمن وحماية. ودعوة كبار المسيحيين للتحاور والتشاور في الهواجس والوقائع، والتفكير بالبدائل والمستقبل الآخَر. أما سياساتُ تجديد العقود والعهود فتتطلب رؤية جديدة للعيش المشترك وأهميته في التماسك الاجتماعي، ومنع التهجير باسم الدين. في حين تتطلب سياسات استنقاذ الدولة الوطنية، استحداث وتطوير أنظمة الحكم الصالح والرشيد، والإصلاح السياسي والمفهوم الديني، هناك العمل المشترك على الخروج والإخراج من ذهنية تحالف الأقليات، وتطلب الحمايات من الجوار ومن الخارج.
وإلى صعوبة الأوضاع نتيجة العوامل السالفة الذكر، هناك تحديان إضافيان؛ الأول يتمثل في استسهال اللجوء إلى العنف من جانب فئاتٍ مُستهواة من الشبان في الأوطان وفي مَهاجر وجاليات الخارج. أما التحدي الآخر فيبدو في الانكفاء المسيحي والاستنامة إلى التحالفات الافتراضية ومظلات الحماية الوهمية. فكيف نستعيد المناعة، وكيف نستنهض أفكار وخطوات المبادرات المشتركة؟
إنها أعوامٌ حاسمة تتراكم خلالها على دولنا وأدياننا ملفات ورهانات، وهي تحفل بالاستهدافات. ولا يعذر للتقصير فيها القول إننا نحن أيضاً مستنزفون ومستهدفون؛ إذ لن نخرج من الاستهداف والاستنزاف إلاّ معاً أو جميعاً. ويا للعرب!