بضحكةٍ قد يمرّ المُشاهد على هَفوات الإعلاميين وأخطائهم، من مقدّمين ومقدّمات، التي تلتقطُها البرامج النقدية الساخرة. لكن، لو تريّثنا قليلاً ونظرَنا إلى الصورة بشمولية، لوجَدنا أنها حلقة من سلسلة مترابطة من أزمة الإعلام. العِبرةُ ليست في الخطأ، إذ جلّ من لا يُخطئ، بل في استكمال الكلام وكأن شيئًا لم يكن، وعدم الاعتذار عن السقطة وتصويبها. وهنا، تستدعي الأخطاءُ مجموعة من التساؤلات: في أيّ جامعات يُخرّج هؤلاء الأشخاص؟ ووفق أي معايير يُنتقون للعمل في هذه المؤسسات؟ وما مدى إتقانهم اللغة العربية، إلقاءً وكتابةً، وتبحّرهم فيها؟ وهذا الأمر لا يقف عند الإعلام المرئي فقط، بل ينسحب على المكتوب والمسموع.


لا نُثير هذه الإشكالية لمجرّد الإثارة، وإنّما لاتصالها وارتباطها بأزمة الإعلام ككلّ. الإضاءةُ على الأزمة كأنّها فقط ماديةٌ، هي تبسيط للأزمة لئلّا نقول سذاجة، على رغم أهميّتها، لكنّ ثمّة شقًّا فيها يتعلق بالجسم الإعلامي أيضاً. هناك خللٌ بنيوي تمظهر أكثر جرّاء الأزمة المالية، وقد تبدّى أكثر ما تبدّى، في الإعلام المرئي لكونه أكثر التصاقًا بالرأي العام وتأثيراً، وهذا لا يستثني طبعاً الصحافة المطبوعة والمسموعة. لو نظرنا إلى شاشاتنا المحليّة لتنبّهنا إلى الدرك الذي انحدرت إليه، سواء في الإسفاف في البرامج أو في التعاطي في ما بينها. هذا التهافت على المُشاهد واللهثُ وراءه وضَعا هذه المؤسسات في حال انبطاحٍ وتمرّغٍ في الوحول، من غير اكتراثٍ بمضمون المادة المقدَّمة وتأثيرها مجتمعيًا وتثقيفًا. وحالُ المواقع الإلكترونية الصحافية ليس في أحسن حال، لا سيّما مع اعتمادها سرعة الخبر وانغماسها في المواضيع الإباحية والفضائح، فغابت أدنى المعايير كالصدقية والموثوقية والموضوعية وكثُرت الهَنات اللغوية وعمليات النسخ المتبادل.


عوامل هذه الأزمة تبدأ من رأس الهرم المؤسسي لتنتهي عند أصغر عامل. فبعدما كان الإعلام السلطة الرابعة صار في قبضة السلطة، تابِعًا خاضِعًا منقادًا. لا أحد يُنكر أنه لا بدّ للمؤسسات الإعلامية من مرجعيات، ولكنها لم تكن يومًا أسيرةً مرتهنةً لها كما حالها اليوم، بل غالبًا ما كانت قادرة على صنع الحدث والقرار، وعلى أقلّ تقديرٍ، التأثير فيهما. وأوّل المتضررين من أزمة الإعلام، هي الصحافة الورقية، وقد كان آخر ضحاياها توقف جريدة "السفير" عن الصدور. وقد تأثّرت الصُّحف بعد انتشار الإنترنت ونشوء المواقع الصحافية الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، لا سيّما بعد توزّع الإعلانات وتالياً تقلّص المردود الإعلاني، ولم تستطع التأقلم رغم انتقالها إلكترونيًا. لكنّ كثرًا عزوا هذا الأمر إلى اكتفاء هذه الصحف بالدعم المادي الخارجي وعدم وضعها سياسات ومقاربات جديدة ودراسات حديثة تراعي فيها الواقع الجديد للإعلام، ولا سيما في ظلّ تطور تقنية المعلومات والاتصالات التي اجتاحت كل مناحي الحياة، وكيفية اجتذاب القارئ وتأمين موارد بديلة.

نامت هذه الصُّحف على أمجادها فيما العالم يسير في وتيرةٍ جنونية من التقدم، وابتعدت عن الاضطلاع بدورها البديهي التزام هموم المواطنين وحقوقهم ونقد السلطة وتصويب عملها. ولم تعِ إدارات هذه المؤسسات أن الصحافة، كغيرها من المجالات، دخلت عصراً جديداً معولماً ركيزتُه الأساس التكنولوجيا الرقمية، وتالياً لا تستطيعُ الاعتماد فقط على أسلحة تقليدية كالخبر والمعلومة اللذين يصلان إلى يدي الشخص عبر هاتفه بعد دقائق معدودة. لذا، يتوجّب على الصحافة أن تعود أكثر إلى الجذور، أي تصير صحافة مواطنين لا فقط صحافة تمويل، وتتصل أكثر بالمجتمع وتلتصق بقضاياه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإنمائية، وذلك من خلال مقالات نقدية رصينة وتحقيقات قيّمة وسبقٍ صحافي تُقارب هموم المواطن وشجونه وتؤدي دورها التوعوي. والمرئيُّ، وإن لم تطفُ مشكلاته حالياً على السطح، فوضعُه ليس بأحسن ما يرام. فأصحاب التلفزيونات يتزاحمون على المُشاهد ويجهدون لتأمين موارد بديلة وابتكار أساليب برامج جديدة، ولو على حساب الفارغة المضمون منها، وتغييب التوعوي والهادف والبنّاء، ولا سيما في فترات الذروة "Peak Time".
لا شكّ في أن مُتغيّراتٍ عدّةً تعصفُ بالإعلام، وهو في مرحلة إعادة هيكلةٍ ومراجعةٍ واكتشافٍ للذات. ولا مناصَ من تحديثات وتعديلات ستطال قطاعه، غير أن المِحكّ يكمن في قدرته على التكيّف والتماهي مع المحافظة على الروحية والجوهر وأصالة الدور.

مُجاراةُ التطوّر التقني، من إنترنت ومواقع إلكترونية ووسائل تواصل، أمرٌ لا مفرّ منه. غير أن أَسَّ الإعلام لم يُخالطه أيُّ فساد وإنّما ثمة من يحاول إفساده وخلخلة معاييره؛ لا بدّ من البدء من تطوير المِنهاج الجامعي ورفع مستواه وتاليًا تخريج صحافيين كفيّين، وهنا اللغة العربية هي سلاحُ هذا الصحافي توازيًا مع الثقافة. وما تُروّج له ألسنةُ مذيعي التلفزيونات والمواقع الإلكترونية الصحافية من ركاكةٍ لغوية ومجازر بحق اللغة لَهُو جريمة في حق ثقافتنا وإرثنا تستوجبُ العقاب. وتترتّب مسؤولية هنا على أصحاب هذه المؤسسات لناحية ضرورة توفير بيئة حاضنة للأقلام الفذّة والرصينة والحرّة وتنحية المحسوبية والمستزلمين والانتهازيين، واجتذاب الصحافيين الموهوبين من الشباب ومنحهم حريّة العمل والإبداع. الإعلامُ ليس فتيات جميلات وعريًا وفضائحَ وشتائم و"رايتينغ" وأموالًا بل هو لسان حال المواطن وواجهة الوطن ووسيلة للمحاسبة والتغيير والتوعية والثقافة وتبيين الحقائق.
لا نريدُ إعلاماً طوباوياً، بل بأقلّ الإيمان وبالحدّ الأدنى منه، إعلامًا موضوعيًا حرًّا يُحاسب يُغيّر يرتقي بالإنسان ويعلو بالوطن.