أولاً: أميركا في قلب العالم العربي...
بعد حرب السويس عام ١٩٥٦ ،وتصفية مواقع الاستعمار القديم في المنطقة العربية بالانسحاب العسكري لكل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، تمكنت الولايات المتحدة الأميركية من التمدُّد والتسلُّط على منطقة الشرق الأوسط بما فيها إيران وتركيا، ومعها طبعاً إسرائيل ،الدولة المغتصبة للأراضي الفلسطينية، ودانت منطقة الخليج العربي بكاملها للغلبة السياسية والاقتصادية الأميركية دون منازع، وتمكنت إسرائيل بفضل الدعم العسكري الأميركي من فرض هيمنتها باحتلال الضفة الغربية لفلسطين، وإرغام دولتين مهمتين من "جبهة الصمود والتصدي" هما مصر والأردن على توقيع اتفاقات سلمية ثنائية معها، وتعزّزت السيطرة الأميركية على المنطقة العربية بعد حرب الخليج وتحرير الكويت ومن ثمّ احتلال العراق مطلع القرن الحالي.
بعد وصول الرئيس السابق باراك أوباما إلى سدة الرئاسة الأميركية عام ٢٠٠٨ ، وانسحاب قواته من العراق ، بات هذا البلد لُقمةً سائغة لإيران، وما لبثت هذه أن عزّزت مكانتها في لبنان وسوريا والعراق واليمن ، حيث اندلع صراع خفي بين السُّنة والشيعة، صراعٌ تضرب جذوره في عمق التاريخ الإسلامي التناحري، ممّا ساهم في تثبيت مراكز قوى إقليمية هامة لإيران في أربع دول عربية، وقد ترافق كل ذلك مع انتهاج الرئيس أوباما سياسة تردُّد وتخبط وانسحابات متتابعة من مواقع التوتر السائد في المنطقة العربية،وحضر الوجود الروسي في شمال سوريا ليضع حدّاً نهائياً للنفوذ الأميركي فيها، وباتت في مهبّ النزاع الإقليمي وتجاذباته بين إيران والسعودية وتركيا وإسرائيل.
ثانياً: ترامب الأميركي..داوني بالتي كانت هي الداءُ.
عانت المنطقة العربية طويلاً تبعات النفوذ الأميركي عليها على مدى نصف قرن من الزمن، ففي ظل هيمنتها تمّت عمليات التوسّع الصهيوني في الضفة الغربية لفلسطين والجولان السوري، وكان "الفيتو" الأميركي الدائم في مجلس الأمن الدولي يسمح لإسرائيل بتمرير عدوانها وجرائمها وحروبها المستمرة ضد لبنان وسوريا والعراق وأخيراً قطاع غزة، وهذا مترافقاً بالطبع مع المساعدات الأميركية العسكرية والمالية السخية للدولة الصهيونية، ومعلومٌ أيضاً أنّ الولايات المتحدة قارعت حركة التحرُّر العربية طويلاً حتى قصمت ظهرها عام ١٩٦٧ على يد إسرائيل، وحصلت بعد ذلك سياسات سوريالية غريبة، إذ قام الغرب الأميركي وأوروبا بتغذية حركات إسلاموية متطرفة ورعايتها وتوفير ملاذات آمنة لها، وما الفوضى التي شهدتها المنطقة العربية بعد أحداث ما يُعرف بالربيع العربي، وظهور هذه الجماعات المتطرفة على مسرح الأحداث بقوة وبطشٍ غير مسبوقين، إلاّ ثمرة من ثمرات قمع حركات التحرُّر العربية، واحتضان الجماعات الإسلامية الراديكالية التي ما فتئت تزرع الرعب والخوف والفوضى، مترافقاً ذلك مع الأطماع التوسعية الإقليمية الإيرانية.
مع إعلان الرئيس ترامب عزمه على إقامة منطقة آمنة في سوريا، ممّا يُنذر بعودة أميركية قوية إلى مسرح العمليات السورية، وإعلانه المبكر بالتصدي لسياسة إيران التوسعية في المنطقة العربية واتهامها صراحة برعاية الإرهاب، ممّا يُؤشّر على قرب عودة جديدة وفاعلة للإدارة الأميركية لهذه المنطقة للحدّ من النفوذ الإيراني المتفاقم، ووقف التلاعبات الإقليمية بمصير هذه المنطقة ، فهل يتداوى العرب اليوم بأميركا التي كانت هي الداءُ؟ ربما ولعلّ.