قد يمكن ببساطة إدراج عملية تنظيم داعش داخل ملهى ليلي في اسطنبول عشية رأس السنة، ضمن سلسلة العمليات الإرهابية التي يشنها تنظيم أبوبكر البغدادي في العالم. والعملية من حيث الشكل وأسلوب التنفيذ تشبه تلك التي جرت ضد سوق في برلين في ألمانيا عشية عيد الميلاد، من حيث أن الجاني هو شخص واحد، وأن العملية ليست انتحارية، وأن المجرم في الحالتين نفذ جريمته وتوارى عن الأنظار. قُتل إرهابي برلين بعد أيام في إيطاليا، والأيام قد تكشف أو لا تكشف مصير إرهابي اسطنبول.

ومع ذلك فإن السياق التركي لعملية من هذا النوع يأخذ أبعاداً متعددة تتجاوز بداهة تعرّض بلد ما لإرهاب ما. وحتى أن السلطات التركية نفسها تعتبر الأمر مفصلياً يهدف إلى “إشاعة الفوضى في البلاد”، حسب الرئيس رجب طيب أردوغان الذي اتهم “أطرافاً” بالوقوف خلف الجريمة. والهدف كما شرح لاحقاً هو إحداث انقسام داخل المجتمع التركي. الأمر ليس عمليات إرهابية رتيبة، بل إن المسعى يستهدف لحمة تركيا وديمومة بنائها، وفق تنظيرات الحكم في أنقرة. أما الفاعل فهم “أطراف”، وهنا مكمن الحكاية.

باتت الحرب مفتوحة بين تركيا و“داعش” على النحو الذي يجعل من المدن التركية هدفاً في سياق تلك الحرب. توضح ضراوة الجريمة وحرفية منفذها أن التنظيم اتخذ من تركيا في السابق ملاذا خلفيا يكدس عناصره وينظم شبكته اللوجستية داخله، وأن من نفذ العملية الأخيرة، كما العمليات التي ضربت البلاد قبلها، دخل الأراضي التركية عبر منافذها الرسمية. كما تكشف العملية أن التحوّلات التركية الكبرى منذ محاولة الانقلاب منتصف يوليو الماضي قد تداعت بقوة على قوة “داعش” وميدان حركته.

لن توقف عمليات الإرهاب التي يرتكبها “داعش” أو حزب العمال الكردستاني قرار أنقرة المضي قدماً في عملية “درع الفرات” التي بدأتها في أغسطس الماضي. فإذا ما كان من انقسام تركي داخلي على أوجه عديدة في السياسة الخارجية التركية، فإن كافة القوى السياسية التركية مجمعة على دعم الجهد العسكري التركي لمكافحة الإرهاب، الكردي والداعشي. ولا ريب أن العملية الأخيرة في اسطنبول تجر مياها إلى خيارات أردوغان في مقاربة عدة ملفات.

تمنح جريمة اسطنبول الرئيس التركي وحكومته ديناميات جديدة للاضطلاع بدور مفصلي دولي في محاربة الإرهاب. بات بإمكان تركيا تقديم نفسها مرة جديدة ضحية لهذا الإرهاب، لا بل في الخنادق الأولى المكافحة له. يمحض الأمر “درع الفرات” تغطية دولية، غرباً وشرقا، تدفع وزير الدفاع الفرنسي إلى اعتبار أن الحملة التركية في الشمال السوري هي دفاع عن أمن أوروبا نفسها. وبات بإمكان أنقرة أن تطالب العالم، غرباً وشرقاً، بدعم الخيارات التركية في الشمال السوري، بما في ذلك تقديم المتطلبات التركية على الحسابات الكردية التي تحظى بتغطيات متفاوتة من قبل موسكو وواشنطن. وبات على العواصم الدولية دعم الجهد التركي للسيطرة على مدينة الباب، والاعتراف به، لاحقاً، كأساس في معركة الرقة.

إلا أنه من التسرّع النظر إلى وضع تركيا بذلك التبسيط فقط. يعيش البلد تحوّلات داخلية كبرى، لا سيما تلك التي تتعلق بهويته ووظيفته داخل المشهد الدولي العام. ولا ريب أن الحرب الداخلية (التي تكاد تكون أهلية) ضد “الكيان الموازي”، وفق تسميات أنقرة لتيار الداعية التركي فتح الله غولن، قد عصفت بالبلد مجتمعاً ومؤسسات. وقد تذهب بعض السيناريوهات إلى تحميل هذه “الحرب” مسؤولية الانكشاف الأمني الذي تتعرض له تركيا جراء حملات الطرد الجماعي التي طالت المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية، بما في ذلك من داخل حزب العدالة والتنمية.

لكن المخاض الداخلي لا ينحصر في ذلك الصراع بين “الأصلي” و“الموازي”، بل ينسحب على جدل داخلي يرتبط بالتعديلات الدستورية التي يسعى إليها أردوغان لتحويل تركيا إلى نظام رئاسي والتي تسلّحه بصلاحيات مطلقة.

بيد أن تسليط المجهر على “الحالة” التركية قد يكشف أن البلد يكابد صراعاً داخل تيارات الإسلام السياسي، في نسخات أردوغان وغولن والبغدادي، مع ما يستثمره هذا الصراع من خلط وتقاطع وتماه بين جماعات ولوبيات وشخوص كانت متحالفة أو متعايشة أو متواطئة قبل سنوات. وبغضّ النظر عن السرديات الرسمية للوقائع وتفاسيرها، فإن لتنظيم داعش وتيار غولن والـ“بي كا كا” مصلحة داخلية في منع استتباب الأمور في تركيا، كل لحساباته الخاصة. لكن أمر التموضع التركي الجديد بالاقتراب من روسيا والابتعاد عن العالم الغربي قد يرفع من احتمالات أن يكون النزوع التركي نحو الشرق موجعاً. وأن اقتراب أنقرة من موسكو لا يثير ريبة الغرب فقط، بل يستفز إيران التي ترى في الأمر نمو تكتل وظيفي روسي تركي يبعد موسكو عن خيارات طهران.

قد يكون مبكراً استنتاج بعد دولي أو إقليمي للعمليات الإرهابية التي تتعرض لها تركيا والتي يتهم أردوغان “أطرافا” بالوقوف وراءها. لكن أوساط أنقرة نفسها تلمح إلى هذا الاحتمال من خلال الشكوى التي يكررها مسؤولوها من غياب التنسيق الأمني بين تركيا وحلفائها الغربيين، وعدم معاملة تركيا من قبل الحلف الأطلسي معاملة عضو مؤسس وجب التضامن مع أوجاعه. وبالرغم من أن للعتب التركي حوافز لتبرير اقتراب أنقرة السريع الخطوات من موسكو، إلا أن أزمة نظام حزب العدالة والتنمية مع الاتحاد الأوروبي ومع إدارة الرئيس باراك أوباما في الولايات المتحدة تترك المشهد ضبابيا مربكاً، لا سيما أن خيار تركيا الروسي يتسبب بتصدّع موازين القوى ويقلب قواعد معمولا بها منذ الحرب العالمية الثانية.

تشكو أنقرة من أخطار أمنية مباشرة ثلاث.

الأول مصدره تنظيم داعش الذي تخوض تركيا ضده حرباً مباشرة. وعلى الرغم من أنها عضو داخل التحالف الدولي ضد “داعش”، إلا أن المدد الجوي الذي طالبت به تركيا في معركتها في مدينة الباب جاء روسيا من خلال قيام طائرات روسية، وليس أطلسية، بدك مواقع للتنظيم الإرهابي داخل المدينة. تستنج أنقرة الواقع الجديد مستغربة على لسان وزير خارجيتها فكري إشيق امتناع الحلف الدولي عن تقديم الدعم اللازم لكسر الإرهاب في “الباب”.

الثاني مصدره حزب العمال الكردستاني الذي يعتبره العالم أجمع تنظيما إرهابيا، لكن ذلك لا يمنع روسيا والولايات المتحدة من الاعتراف بامتداداته داخل سوريا من خلال حزب الاتحاد الديمقراطي و“قوات حماية الشعب” الكردية التي تحظى بدعم ورعاية أميركيين. وإذا ما كانت شروط مواجهة “داعش” في سوريا تستدعي قفز واشنطن على “إرهابية” امتدادات الـ“بي كا كا” في شمال سوريا، فإن تركيا تعتبر الأمر خطاً أحمر تتحلق كافة المكونات السياسية التركية لرده عن الحدود الجنوبية للبلاد.

الثالث مصدره تيار الداعية فتح الله غولن، الذي يتواجد في بنسلفانيا في الولايات المتحدة، والذي لم تهتم واشنطن لطلبات تركيا المتكررة بتسليمه على الرغم من تقديم أنقرة ملفا دسماً يحمّله مسؤولية محاولة الانقلاب في يوليو الماضي. وعليه لا يمكن للعقل الحاكم التركي إلا أن يعتبر سلوك “الكيان الموازي” ضد أردوغان وصحبه إلا مزاجاً أميركيا معاديا، أو سلوكاً يقوده غولن ولا يزعج واشنطن كثيراً.

تدرك أنقرة أنها تعيش مخاضاً مضنياً هو الأكثر خطورة منذ تشكّل تركيا ما بعد العثمانية، وهو الأكثر تهديداً لنظام “العدالة والتنمية” منذ وصوله للسلطة عام 2002. ولأن رياح الغرب تحمل نذراً مقلقاً فإن التوجه للاستظلال بالسقوف الروسية بات حاجة للأمن الاستراتيجي وليس خيارا أو تكتيكاً.

لكن تركيا تدرك أيضا أن السقوف الروسية نفسها تبحث عما يرممها ويقوي من ركائزها بما يدعم طموحات فلاديمير بوتين في الاعتراف ببلاده شريكا في إدارة شؤون العالم. وبسبب الطابع الارتجالي للاندفاعة الروسية وعدم الحكمة من نقل كل البيض التركي إلى السلة الروسية، فإن رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم يلجأ إلى أوراق سلفه أحمد داوود أوغلو في تبشيره القديم بالـ”صفر مشاكل”، فيعيد ترميم العلاقة مع بغداد، وتعبيد الطريق نحو دمشق حتى، ربما، برئاسة بشار الأسد.

هذا زمن “الواقعية السياسية” المرادف المستتر للماكيافيلية الشهيرة.

محمد قواص