تمهيد: كلّما ظهرت بعض الأفكار والآراء التي تحضّ على تجديد الخطاب الديني ومقولاته سعياً لدمجه في الحداثة الأوروبية والإنسانية، أو سعت إلى تأويله بما يتّفق مع مقتضيات الحضارة والحداثة والثورات العلمية، ذهب كثيرون إلى اتهام أصحاب هذه الأفكار بالتجديف والكفر والضلال والنيل من مقدسات الأديان السماوية.

أولاً : رؤيتان مختلفتان...
في الواقع أنّ المؤمنين و"حُرّاس المقدّسات" يعتقدون أنّ الدين السماوي (اليهودية والنصرانية والإسلام) هو مُعطى إلهي قائم على الوحي، والإرادة الإلهية التي لا تُردّ، والشرائع السماوية التي تسعى لخلاص بني البشر من وثنيّتهم وجاهليتهم، كما تسعى لنقلهم من عالم الفساد والرغبات والمعاصي والخطايا العابرة، إلى عالم الخلد والطّهر والنعيم الأبدي. في حين يذهب الحداثيون (المتغرّبون كما يُدعون في البيئة الإسلامية) للقول بأنّ الدين يمكن فهمه و"تعقُّلُه" باعتباره ظاهرة أو حدث، وبهذا المعنى يذهبون إلى أنّ الإسلام مثلا يُعتبر حدث، ككلّ حدث، أي هو مرتبط بظروف تاريخية معيّنة يتأثر ويُؤثّر بها، وتلك الظروف التي انبثق فيها لم تعد ذاتها الظروف السائدة حالياً، ويستشهدون على ذلك بما تنبَّه إليه مفسرو القرآن الكريم خلال القرون الهجرية الأولى بعنايتهم بأسباب النزول، أي أنّ كلام الله ارتبط بأحداثٍ معينة وأشخاص معيّنين، وبالتالي تفقد الظاهرة الدينية جمودها وجوهرانيتها التي تُحصّنها من عاديات التحول والتغيير.

إقرأ أيضًا: قتلُ السفير الروسي في تركيا، عمل إرهابي ومُدان

ثانياً: تفوُّق الحداثة الأوروبية على العقل المسيحي...
تصارعت الحداثة الأوروبية مع العقيدة المسيحية منذ القرن السادس عشر الميلادي، إلاّ أن الصراع لم يُحسم إلاّ بعد قرنين من الزمن، وانتهى بانتصار الحداثة على العقل المسيحي بصيغته اللاهوتية القروسطية (أي العائدة للقرون الوسطى)، وهذا الانتصار تفرّد به الغرب وحده، وتقدّمت الحداثة لتفرض نفسها كبديل للإنتاج التاريخي للمجتمعات البشرية، فحلّت محل المشروعية المسيحية اللاهوتية القديمة المشروعية الحديثة، أي المشروعية الديمقراطية، مشروعية حقوق الإنسان والمواطن، أي مُواطن وأي إنسان، بغضّ النظر عن أصله وفصله، عن عرقه ودينه ومذهبه، وبذلك تمكنت الأمم الأوروبية من إنجاز ما تشهده البشرية اليوم من تقدم وحضارة وعلوم وآداب وفنون، وأخيرًا، النزاعات التي تصاحب الغريزة البشرية على ما يبدو ويتوضّح.

ثالثاً: الثورات المحبطة في الجانب الإسلامي...
معركة" الحداثة" مع "المحافظة" بدأت في الجبهة الإسلامية باكراً، مع المعتزلة الذين أصرّوا على القول بأنّ الإنسان هو خالق أفعاله بما لا يتّسق كثيراً مع المشيئة الإلهية المطلقة، كما قالوا بالعدل الإلهي، بمعنى أن الله لا بد أن يُثيب ويعاقب، بما لا يتّسق مع المغفرة التي وسعت كل شيء، وبعد ذلك اشتدّ الصراع بين أهل العقل وأهل النقل، بين الإنسييّن واللاهوتييّن، بين الفلاسفة وأهل التقليد، إلى أن انتهى الأمر بهزيمة الإنسية والعقلانية في الساحة العربية كما هو معروف منذ أيام المتوكّل العباسي حتى سقوط الإمبراطورية العثمانية.

إقرأ أيضًا: معالي الوزيرة عزالدين المُحجّبة..إشكالية الحجاب مُجدّداً
بعد انحسار السلطنة العثمانية أوائل القرن العشرين، عرفت الأمة الإسلامية حركة إصلاحية رائدة مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده المصري ورشيد رضا وشكيب إرسلان اللبنانييّن ، متضافرة مع حركة تنوير قادها رفاعة الطهطاوي وطه حسين، وعبد الرحمن الكواكبي، بالإضافة للحداثة الأدبية مع جبران، وغيرهم كثير لا مجال لذكرهم هنا، وللأسف، ذهبت كل الجهود المبذولة هباءً وأصبحت أثراً بعد عين، إذ تمّ استخدام "الإسلام الحالي" استخداماً إيديولوجياً للتغطية على الحداثة المجلوبة من الغرب الإمبريالي، من قبل الأنظمة، وبما أنّ هذه الأنظمة فشلت في مختلف مجالات التنمية والعدالة والمساواة وبناء المواطن الحر والسوي، أمعنت في الفساد وساهمت في تفاقم مشاكل البطالة والتعليم، فتقدمت الحركات الأصولية لتحتلّ الشارع، وتخترق العقول، وتنشر الجهل والتخلّف، وتدعو للعودة إلى مجاهل القرون الوسطى، مع رفضٍ كامل وشامل للحداثة الغربية بما فيها من مكتسبات تاريخية ذات فائدة وإيجابية، ومن أهم هذه المكتسبات مقدرة الحداثة على دمج العامل الديني نفسه داخل استراتيجية موسّعة ومنفتحة لإنتاج المعنى والسيطرة عليه.
للأسف اليوم بدل أن ننقل الحداثة إلى بلادنا لتغتني ونغتني بها، ها نحن اليوم نبعث للغرب آخر ما توصلنا إليه في مجال العنف والاستهتار بالروح البشرية، ولعلّنا اليوم نُجبر هذا الغرب على مراجعة إنجازات الحداثة للنّكوص عنها بدل تعميقها وتجذيرها.