في العام 2006، وعد أمين عام حزب الله اللبنانيين بصيف هادئ وغير ساخن، لكن سرعان ما احتاجت إيران إلى خدمات حزب الله في ابتزاز إسرائيل لكسب المزيد من الوقت لبرنامجها النووي، فتحوّل صيف لبنان إلى جحيم عندما شنّت إسرائيل في ذلك العام حربا شرسة على لبنان بسبب حزب الله، مما اضطر الأخير في نهايتها إلى القبول بالقرار الدولي (1701).
 


وما أن تمّ إغلاق الحدود مع إسرائيل، حتى استدار حزب الله ببندقيته وما تبقى لديه من قوة باتجاه الداخل اللبناني. كشّر الحزب عن أنيابه، وخلع قناعه، فكانت غزوة بيروت في العام 2008، تلاها ابتلاع الحزب للدولة اللبنانية ومؤسساتها بشكل تام، ما أدى إلى انقسام حاد في الداخل اللبناني وارتفاع منسوب الحالة الطائفية وتدهور الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني للبلاد إلى أن جاءت الثورة السورية في العام 2011.

خلال تلك الفترة، شهد لبنان مرحلة استثنائية إذا صح التعبير لناحية الهدوء التام الذي خيّم على الحدود مع إسرائيل، ولم يضطر الجيش الإسرائيلي إلى شن حرب جديدة على لبنان، وسرعان ما امتدت هذه الفترة إلى عقد كامل.

 مع اندلاع الثورة السورية، رمى حزب الله بكل ثقله إلى جانب نظام الأسد بعد أن حسم المرشد الأعلى علي خامنئي هذا الخيار مبكرا. والمفارقة في هذا المجال أنّ الحزب كان مرتاحا تماما لناحية النوايا السلميّة الإسرائيلية لدرجة سمحت له بأن يترك ظهره في جنوب لبنان مكشوفا تماما للعدو الإسرائيلي منذ ذلك الوقت وحتى اليوم.

لقد مهّد حزب الله لهذا الوضع من خلال رسائل متكررة تؤكّد بطريقة غير مباشرة بأنّ وجوده في سوريا هو مصلحة إسرائيلية وغربية قبل كل شيء، فهو في نهاية المطاف يدّعي بأنه يتطوّع لمقاتلة "التكفيرين" الذين يشكلون أكبر خطر على إسرائيل وعلى الغرب، وهو يحمي نظام الأسد الذي يعرف الإسرائيليون قبل غيرهم بأنّه صان حدودهم، ولم يطلق طلقة واحة عليهم من سوريا لعقود طويلة، ولذلك فعندما يتدخل الحزب في سوريا إنما يقوم حقيقة بتقديم خدمة لهم وفقا لهذا المنطق.

بالنسبة للجانب الإسرائيلي، لا يوجد أدنى شك في أنّ اندفاع عشرات الآلاف من مقاتلي الحزب إلى داخل سوريا للقتال إلى جانب النظام السوري يعدّ فرصة ذهبية فيما لو أراد تدمير الحزب كآلة ابتزاز إيرانية. لكن فعليا، لا حاجة لإسرائيل في ذلك خاصّة أنّ الحزب وإيران سيحققان لها ما عجزت هي عن تحقيقه لسنوات طويلة في المنطقة، أي تدمير الدول العربية وتقسيمها على أسس عرقية وطائفية، وتفتيت المجتمعات العربية ونشر المذهبية والإرهاب.

أضف إلى ذلك، أن الحسابات الإسرائيلية كانت تقول بأنّه لا مصلحة لديها في شن هجوم كبير على حزب الله في لبنان، فالبيئة الدولية غير مواتية، كما أن سياسات أوباما وصفقاته مع إيران كانت توحي بأنّه سيعارض بقوّة أي توجه من هذا القبيل، ناهيك عن أنّ أي خطوة إسرائيلية من هذا النوع كانت ستحرف أنظار العالم عما تفعله إيران وحزب الله في سوريا، وستمنحهما أيضا تعاطفا مجانيا وستوحّد المختلفين ضدها في العالم العربي.

لكن ابتداء من العام 2017، وتحديدا مع استلام الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب لمهامه، سيكون هناك حسابات جديدة مختلفة بالنسبة لجميع الأطراف. لقد أظهر ترامب بشكل مبكّر جدا مدى قربه من الإسرائيلين ليس من خلال التصريحات فقط وإنما من خلال المواقف المتعلقة بنقل السفارة إلى القدس وموضوع الاستيطان ..الخ، وإذا ما أضفنا هذه الحقيقة إلى واقع أنّ تل أبيب قامت مبكّرا بتأمين مصالحها في سوريا عبر تفاهمها مع موسكو فهذا يعني أنّها مقبلة على مرحلة مختلفة تماما عن المرحلة الحالية.

الحصول على دعم مطلق من موسكو وواشنطن، سيعطي الإسرائيليين ثقة غير مسبوقة كما أنّه سيحرّرهم من أية قيود قد تكون الظروف السابقة قد فرضتها عليهم. أضف إلى ذلك أنّ الجانب الإسرائيلي يعلم جيدا أن مستوى التعاطف مع إيران وحزب الله في العالم العربي والإسلامي هو في حده الأدنى إن لم يكن معدوما، ولا شك أنّ لمثل هذا المعطى أهمّيته في الحسابات العسكرية الإسرائيلية المقبلة.

وفي موازاة ذلك، إذا ما حققت إيران وحزب الله أهدافهمها في سوريا، فسيعودان قريبا إلى النغمة التقليدية القديمة القائمة على معزوفة "الموت لإسرائيل". سيكون هناك حاجة حينها للتشديد على هذه المعزوفة التي قد تتطلب ما يمكن تسميته بالاشتباك المنخفص المستوى مع إسرائيل وذلك ليعيد الحزب وتعيد إيران من ورائه بناء شرعيّتهم وشعبيتهم الإقليمية التي فقدوها في السنوات القليلة الماضية.

لا شك أنّ حزب الله سيكون بحاجة إلى راحة بعد المستنقع السوري، وهذا يفترض أنه لن يبادر إلى افتعال حرب مع إسرائيل، وأنّ مصلحته ستقتضي منه التركيز على رسائله السابقة تجاهها، وهي الرسائل التي سمحت له في المرحلة الماضية بأن يترك ظهره مكشوفا لها، وأن يثق بأنها لن تشنّ هجوما عليه.

ولذلك، فإذا ما راقبنا الوضع في لبنان مؤخرا، فسنرى أنّ حزب الله قد بدأ بخطوات لتحصين نفسه وتأمين الراحة التي نتحدث عنها من خلال إعادة إحياء النظام السياسي الميّت في البلاد وتغلغله في المؤسسات الرسمية، والحرص على أن يكون حلفاؤه في الواجهة السياسية للبلاد، وذلك كي يستطيع الحزب الاختباء وراء الدولة اللبنانية فتتولى هي مهمّة الدفاع عنه في الأزمات، تماما كما كان يحصل سابقا خلال العقود الثلاثة الماضية.

لكن القرار النهائي في أمور من هذا النوع لا تعود إلى الحزب نفسه وإنما إلى المرشد الأعلى، تماما كما كان الأمر عليه في العام 2006 أيضاً. بالنسبة الى إيران، فإنّ حزب الله في لبنان هو فرع خارجي للحرس الثوري الإيراني، ولذلك فعندما يأتيه الأمر، لا مجال للاجتهاد فيه. في المرحلة المقبلة، وإذا ما قام ترامب بتشديد الخناق على النظام الإيراني ولاسيما فيما يتعلق بالاتفاق النووي ودور إيران الإقليمي فسيكون نظام الملالي بحاجة إلى حزب الله والى معركة إسرائيلية بأسرع مما يتصوّر كثيرون.

قد يفترض البعض بأنّه من المبكر جدا الوصول إلى استنتاجات من هذا، وهذا تشكيك مشروع بطبيعة الحال، لكنّنا لا نقول بأنّ الحرب ستندلع غدا. ما نشير إليه هو أنّ المرحلة المقبلة التي ستبدأ مع إدارة ترامب وتستمر 4 سنوات على الأقل ستتضمن الشروط اللازمة لاندلاع مثل هذه الحرب، وإذا لم يطرأ تعديل على المعطيات الأساسية فإننا سنسير حتما باتجاهها.