تتوسّط شجرة الأرز العلم اللبناني، وتعتبر بمثابة الرمز الوطني للبلد، وهي ترد في النشيد الوطني بعبارة تعظيمية مجدُه أرزه رمزه للخلود.
 
لكنّ هذه الشجرة الباسقة، الوارفة الظلال، المعمّرة، التي تعيش في المرتفعات، والتي يتميز نوعها المعروف علمياً باسم "سدروس ليباني" والمهدّد بالانقراض، عن سواه، لم يجر اختيارها رمزاً وعلماً لدواعي "بيئية طبيعية" فقط، أو كرمز لـ"الخلود" بشكل "‘عام" ومُنحّى عن المضامين الدينية واللاهوتية.
 
بالعكس تماماً. فاصطفاء شجرة الأرز، وخصوصاً "أرز الرّب" لتكون رمزاً عزيزاً على الكنيسة المارونية، قبل قرنين، من قيام "دولة لبنان الكبير" عام 1920، ينطلق من مخيّلة دينية حيوية، ترتبط أساساً بما للأرزة من مقام في "الكتاب المقدّس"، وخصوصاً مع الملك داود الذي يظهره العهد القديم، وقد مات متحسّراً لأنه بنى بيته من أرز لبنان دون أن يبني مثله لتابوت العهد، وابنه سليمان الذي بنى هيكل الرّب "وأكمله وسقفه بجذوع وألواح من الأرز"، وكان يستورده من حيرام ملك صور الذي كان يبعث له "بخشب الأرز وخشب السرو بحسب ما أراد"، ثم بنى بعده "بيت غابة لبنان" مستخدماً خشب الأرز أيضاً.
 
هيكل سليمان و"قدسية" جبل لبنان
 
أتاح هذا الربط بين شجرة الأرز وبين هيكل أورشليم، وبين حيرام وبين سليمان، مساراً "تقديسياً" للمكان: المناطق التي يقطنها الموارنة في الجبل مقدّسة، ما دامت تحوي هذا النوع من الشجر، الذي استخدم لبناء هيكل سليمان، وما دام عمر بعض هذه الأشجار هو من زمن حيرام وسليمان نفسه، إذ بإمكانها أن تعمّر ألفين وثلاثة آلاف عام.
 
والأرز مبحث قائم بذاته في الديانتين الكتابيتين، اليهودية والمسيحية، لكثرة الآيات التي يرد فيها في أسفار "العهد القديم". يبقى أنّ التراثين، التفسيري والكلاميّ، في هاتين الديانتين، جنح عموماً للتعامل مع شجرة الأرز ومواضع ذكرها المختلفة في الكتاب المقدّس، على أنّها شجرة مبجّلة حيناً، ومدانة حيناً آخر. فتارة تظهر بحكم المقدّسة، وتارة بحكم العاصية والمغرورة التي يعاقبها الله.
 
الأرزة أم النخلة: من الأفضل؟
 
وأكثر، اجتُذِبَ التراثان التفسيريّ والكلاميّ في اليهودية كما في المسيحية، بالمقابلة بين شجرتين، الأرزة والنخلة، بل المفاضلة بينهما، انطلاقاً مما ورد في المزمور 92 "الصدّيق كالنخلة يزهو، كالأرز في لبنان ينمو". جرت المقابلة بين استقامة شجرة النخل في مقابل قلّة جمالها، في مقابل عدم استقامة شجرة الأرز في مقابل جمالها ورائحتها الزكية وظلالها الوارفة التي يمكنها أن تتسع لجماعة، بين النخلة التي تعطي ثماراً، والأرزة التي لا تعطي، بين النخلة التي يستخدم خشبها البابليون، والأرزة التي يستخدم خشبها الكنعانيون والعبرانيون، والتي يبدو اسمها في العربية تعريباً لإسمها في العبرية. في التقاليد التفسيرية اليهودية مثلاً، غلبت المقابلة بين المتتلمذ على علوم دينه الذي يتبع نموذج "الأرزة" فيكتفي بالنهل من هذه العلوم لنفسه، ولا ينفع بها سواه، وبين المتتلمذ الأفضل منه منزلة، والذي يتبع نموذج "النخلة"، فيحرص بما يتعلمه على إفادة الآخرين، وكلاهما يعتبر بارّاً، وصدّيقاً، سوى أنّ الله يفضّل الثاني على الأوّل، النخلة على الأرزة.
 
الأرزة كـ"أحجية تلمودية"
 
لكن حضور الأرزة في العهد القديم لم يبدأ بداود وسليمان، بل نجده في سفر الخروج وباقي الأسفار المتعلقة بموسى والخروج من مصر باتجاه الأرض الموعودة. في "سفر الخروج" (26، 15) يطلب الرّب من العبرانيين بعد أن غادروا مصر، أرض العبودية، ودخلوا الى سيناء، أن يقيموا له مقاماً متحرّكاً من خشب "شيتيم". اُعتبر خشب "شيتيم" في التلمود صنفاً من أصناف الأرز، في حين تميّزه ترجمات أخرى بأنه "من خشب السّنط". ولمّا أعتبر خشب شيتيم من الأرز، صارت الأحجية التلمودية من أين يأتي العبرانيون بخشب الأرز، وكانوا في مصر لأجيال، وهم الآن في صحراء سيناء؟ النتيجة التي توصّل إليها أحد التقاليد التفسيرية في اليهودية الربّية، أنّ يعقوب، جد بني اسرائيل، لما قدم على مصر، قبل ذلك بقرنين، لرؤية ابنه يوسف، ترك في مصر شتلات من الأرز، في موضع بعينه، جرى السهر عليها، وانتزعت حين وُجبت مغادرة أرض العبودية باتجاه سيناء!
 
الأرزة كخشب في خدمة الكهنوت
 
أما في "سفر اللاويين"، فيجري التشديد على الوظيفة التطهيرية لخشب الأرز ودور الكهنوت، وفي نطاق "شريعة الأبرص": "يأمر الكاهن أن يؤخذ للمتطهر عصفوران حيّان طاهران، وخشب أرز وقرمز وزوفا". وبما أنّ الكنيسة المسيحية تنظر إلى الكهانة داخلها كاستمرارية لما كانت تقوم به قبيلة اللاويين، يصير الأرز بمثابة رمز للكهنوت نفسه، ووظيفته التطهيرية لمعالجة الأبدان والنفوس على حد سواء.
 
الأرزة المارونية
 
بطبيعة الحال، لم يجر استيعاب كل ما في التراث الديني اليهو-مسيحي حول شجرة الأرز، حين احتلت هذه الشجرة مكانة بارزة في الوعي الكنسي ثم الجماعي الماروني، ثم جرى اعتمادها بعد أيام قليلة من اعلان الجنرال غورو دولة لبنان الكبير رمزاً لهذا الكيان. بيد أنّ ثنائية "النخلة في مقابل الأرزة" ظلّت محورية بالنسبة للموارنة، وليس بقصد تقديم نموذج النخلة على نموذج الأرزة كما مرّ معنا سابقاً، بالاستناد الى المزمور 92، وانما للرفع من شأن الأرزة، التي فُضّلت على النخلة في بناء المعابد الكنعانية ثم الهيكل العبراني، واعتبارها بمثابة رمز للاختلاف بين طبيعة لبنان وبين طبيعة البلدان التي ينتشر فيها النخيل.
 
طنوس الشدياق: فينيقيا بلاد النخل!
 
لكن ذلك لم يحدث بين ليلة وضحاها. فطنوس الشدياق عام 1859، وفي مستهل تاريخه "أخبار الأعيان في جبل لبنان" يعرّف لبنان على أنه يعني الأبيض، وهو "جبل بين طرابلس وبعلبك"، ويقع في "فينيقية من سوريا الثانية"، لكنه يفسّر أصل كلمة فينيقية فيقول "ومعنى فينيقية بلاد النخل". يشدّد طنوس الشدياق على "قدمية الأرز" وعلى كون لبنان بحكم الجبل المقدس بالنسبة للنصارى "لما فيه من المشاهد والأعلام"، لكنه يستعيد ما روي عن ابن عباس بأنّ "بيت الله الحرام بني من خمسة جبال مقدسة منها جبل لبنان"، علماً أن ياقوت الحموي كان ميّز بين لبنان، الجبل الواقع بعد حمص، والذي تكثر فيه "الفواكه والزرع من دون أن يزرعها أحد"، وبين "لبنان" الذي يقال عن "جبلين قرب مكة يقال لهما لبن الأسفل ولبن الأعلى".
في منتصف القرن التاسع عشر إذاً، كان طنوس الشدياق حريصاً على الموازنة بين المقام الديني لجبل لبنان عند المسيحيين وعند المسلمين، ولم يفاضل بين الأرزة والنخلة، بما أن جبل الأرز واقع في "فينقية بلاد النخل". وهذا سيتبدّل بشكل كبير مع قيام الكيان اللبناني.
 
سفر أشعيا في كلمات النشيد اللبناني
 
ينبهنا المؤرّخ قيس ماضي فرّو مثلاً، في كتابه "ابتداع لبنان - القومية والدولة في ظل الانتداب"، أنّه عندما رسم العلم اللبناني الأول في ظل الانتداب، وهو العلم الفرنسي تتوسطه أرزة خضراء، لم يكن أغلب سكّان البقاع وعكار وجبل عامل قد رأوا أرزة واحدة في حياتهم. مع ذلك احتفى رواد الكيانية اللبنانية بالأرزة كنموذج أساسي لبناء تصوراتهم. فهذا يوسف السودا مثلاً، في "تاريخ لبنان الحضاري" يقول: "كانت غابات الأرز تغطي قمم لبنان وتمتد على مساحات شاسعة فلا تكاد تقطع أشجار في منطقة ما حتى ينبت جديد في منطقة أخرى". ويتابع "وأدرك الأقدمون ان لخشب الأرز ميزات خاصة لا يضاهيه فيها أي خشب آخر" وقد "مكن خشب الأرز اللبنانيين من بناء السفن"، ثم يسرد ما يصنفه "تغني التوراة مرات بأرز لبنان"، وخصوصاً ما ورد في سفر أشعيا عن الأرزة أنها "أوتيت مجد لبنان" (العبارة التي ستجد طريقها الى كلمات النشيد اللبناني).
 
رمز غير محايد دينياً
 
الأرزة رمز غير محايد دينياً إذاً، وغير محايد أيديولوجياً كذلك الأمر. دينياً هي بنت التراث الكتابي اليهو-مسيحيّ، واستخدمت لربط قدسية جبل لبنان بقدسية هيكل سليمان، وربط الكهنوت المارونية بالوظيفة التطهيرية للقبيلة الكهنوتية، اللاويين، في العهد القديم. أيديولوجياً، استخدمت كمخرج من عدم اتصاف الموارنة بالعيش على السواحل، وبالتالي صعوبة أن يطرحوا أنفسهم كاستمرارية للمدن الفينيقية الساحلية، الا من خلال كونهم أحفادَ من تميّزهم التوراة بأنهم كانوا يقطعون شجر الأرز من أجل إرسالها الى ملك صور بغية إرسالها إلى سليمان.
 
لا يعني ذلك أنّ رمزاً له مضامين دينية وأيديولوجية لا يمكنه أن يحمّل مضامين إضافية، لكن لذلك شروطه أيضاً، ومنها في المقام الأول عدم التغافل عمّا تختزنه الأرزة، أرزة الرّب، في العلم الوطني والنشيد، من مخيلة دينية عميقة، ومن توظيفات أيديولوجية معجونة بالدين. ليس نافلاً أن يكون "الشعور بالأرزة" مختلفاً، وبشكل واضح، بين اللبنانيين، قبل سنوات قليلة من مئوية إعلان دولة لبنان الكبير. ليس هامشياً أن يكون الرمز الوطني مرتبطاً بخلفية هيكل سليمان، وبالتراث التفسيري للكتاب المقدّس، ولعملية اضفاء "القدسية" على جبل لبنان، أو جعله جزءاً من الأرض المقدسة، ناهيك بارتباطه بأدب الرحّالة والمستشرقين الفرنسيين في القرن التاسع عشر، وخصوصاً في آثار لامارتين. فهل يعدّل أرز الرومانطيقية المستشرقة بعضاً من هوية الأرز الدينية، أو من الأفضل استذكار التحذيرات التوراتية ضدّ "غرور" الأرزة؟