لا يتوفر الغناء إلاّ إذا توفّر العمران، فالغناء عند ابن خلدون شأنٌ كمالي، فلا يطلبها إلاّ من فرغ من جميع حاجاته الضرورية من المعاش والمنزل وغيره، ولا يطلبها إلاّ الفارغون عن سائر أحوالهم تفنّناً في مذاهب الملذّات
 


أولاً: صناعة الغناء عند ابن خلدون 

هذه "الصناعة" هي تلحين الأشعار الموزونة، بتقطيع الأصوات على نسبٍ منتظمة معروفة، يُوقّع على كلّ صوت منها توقيعاً عند قطعه فيكون نغمة، (يعرف اليوم بالإيقاع)، فيلذُّ سماعها لأجل ذلك التناسب، وما يحدث عنه من الكيفية في تلك الأصوات، وذلك أنّه تبيّن في علم الموسيقى أنّ الأصوات تتناسب، فيكون: صوت، نصف صوت، وربعُ آخر، وخمسُ آخر، وجزءٌ من أحد عشر من آخر؛ واختلاف هذه النسب، عند تأديتها إلى السمع، يُخرجها من البساطة إلى التركيب، وليس كلّ تركيب منها محبّبًا في السماع، بل للمحبّب تراكيب خاصة هي التي حصرها أهل علم الموسيقى، وقد يساوقُ ذلك التلحين في النغمات الغنائية بتقطيع أصواتٍ أخرى من الجمادات ، إما بالقرع أو بالنفخ في آلاتٍ تُتّخذ لذلك، فتزيدها لذةً عند السماع، منها المزمار ويسمّونه "الشّبابة"، والبوق ومنها آلات الأوتار مثل البربط والرباب والقانون.

ثانياً: تلازم الغناء والعمران

لا يتوفر الغناء إلاّ إذا توفّر العمران، فالغناء عند ابن خلدون شأنٌ كمالي، فلا يطلبها إلاّ من فرغ من جميع حاجاته الضرورية من المعاش والمنزل وغيره، ولا يطلبها إلاّ الفارغون عن سائر أحوالهم تفنّناً في مذاهب الملذّات ، ويذهب ابن خلدون إلى أنّ في سلطان العجم بحرٌ زاخر في الغناء والملاهي، وذلك لاهتمام ملوكهم بهذه الصناعة، فكانوا يحضرون مشاهد المغنين ومجامعهم ويُغنّون فيها، ويردف بأنّ هذا شأن العجم لهذا العهد في كل أفق من آفاقهم، ومملكة من ممالكهم.
بخلاف العجم كان العرب ، فهم لم ينتحلوا علماً ولا عرفوا صناعة، وكانت البداوة أغلب نحلهم، فلم يعرفوا صناعة الغناء بسبب حلّهم وترحالهم، فاقتصروا على نظم أبيات الشعر، وتغنّى الحُداةُ منهم في حُداء إبلهم، والفتيان في قضاء خلواتهم.

ثالثاً: توافد المغنين الفرس مع الإسلام
ظلّ العرب في بداوتهم وجاهليتهم بعيدين عن شؤون العمران وزخارفه وملاهيه، حتى جاء الإسلام وافتتحوا الممالك وحازوا سلطان العجم، فغلبت عليهم حياة الترف واللهو والرفاه ، بما حصل لهم من غنائم الأمم ، ووفد المغنّون من الفُرس والروم إلى بلاد الحجاز وصاروا موالي للعرب، وغنّوا بالعيدان والطنابير والمعازف والزمامير ، فظهر بالمدينة "نشيطٌ" الفارسي وطويس وسائب وخاثر مولى عبدالله بن جعفر، فسمعوا شعر العرب ولحّنوه وأجادوا فيه وطار لهم ذكر، ثمّ أخذ عنهم معبد وطبقته وابن سريج وأنظاره، حتى كمُلت هذه الصناعة أيام الدولة العباسية عند ابراهيم بن المهدي، وابراهيم الموصلّي ، وابنه اسحق وابنه حمّاد. وشاع الغناء وفشا الإقبال على اقتناء القيان والمغنين، واتّخذت آلات الرقص واللهو المعدّ للولائم والأعراس وأيام الأعياد ومجالس الفراغ واللهو.

رابعاً: ليس الغناء بالأمر "الحرج" 
لم يشكّل الغناء أمراً حرجاً للهوية الإسلامية في معظم مراحل الإسلام التاريخي، فقد جرى التساهل، والإسلام في عزّه وجبروته، عن كثير من الأمور التي تعتبر في الأصل محرّمة، مثال ذلك أنّ التاريخ يحفل بأخبار شاربي الخمر وبأخبار الخمارات، كما يحفل الأدب نفسه بفصول عن الخمريات وبأخبار عن شعراء وغيرهم عاشوا معزّزين مكرّمين وماتوا مسلمين مؤمنين رغم أنّهم اشتهروا بخمرياتهم وسكرهم وبمنادمتهم الأمراء والخلفاء- بل للفقهاء أيضاً- فكيف نحكم اليوم على من أجاز لنفسه سماع السيدة فيروز أو غيرها، فهل يكون بعضنا أشدُّ إسلاماً من أولئك الذين أجازوا شرب الخمر على مذهب أبي حنيفة والمالكي مثلاً؟ أم هل يدّعي أحدٌ اليوم أنّه ملتصق بالإسلام أكثر من الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي كان يُلقّب "حمامة المسجد" قبل أن تؤول إليه الخلافة، ليعاتبه بعد ذلك أحد المقرّبين من أصحابه: بلغني يا أمير المؤمنين أنّك اتخذت الطلا (الخمر) بعد الخلافة، فقال: نعم وقتلت النفس التي حرّمها الله، فلا بأس أن يعمد طلابٌ، بعد أن آنسوا عندهم القوة والبطش، من منع زملائهم سماع الموسيقى والانصراف للّهو ، في حين نحن اليوم أشدّ ما نكون بحاجة ماسة لأمّةٍ صاحية مجاهدة ، لا أمّة لاهية ساردةٍ في غيّها. ولعلّ محاربة "التكفيريين" تبدأ من أروقة الجامعة، لئلّا يأتي يومٌ نشهد فيه على مسارح الجامعة فصلاً من فصول "الرقص مع النجوم" dancing with the stars,والعياذ بالله.