رجل كوبا الحديدي الذي رسم تفاصيلها اليومية وتحول مع الوقت إلى قدرها الذي لا مفر منه.
من الصعب إختصار حياة فيدل كاسترو بأسطر وكلمات فهو يعبر عن تاريخ كوبا وحاضرها ومستقبلها ولأعماله وفكره تأثيره العميق على المدى  البعيد من خلال ما بات يعرف بالكاسترية.
لنصف قرن من الزمن تحكم  بمصير بلد شكل خنجر في خاصرة الولايات المتحدة الأميركية وكان مصدر إزعاج دائم وأولوية للعديد من رؤساء أميركا.
لم يكن كاسترو وفيا لمبادئه كما يشاع عنه بل رجل مختلف في عالم السياسة التي إلتزم بقواعدها وأسسها كما غيره  لكنه أدارها بطريقته وأسلوبه معاندا الفهم والعقل السياسي من أجل إثبات نظريته الشيوعية وإسقاط مفهوم الثورة على ميدان السلطة.

جدلية السلطة والثورة:

حاول كاسترو أن يجمع بين الثورة والسلطة لكنه فشل فسقط في أشراك الوهم والسريالية وخان تاريخه وفكره وجلب الويلات على أمته ولم يتعظ من تجربة سقوط الإتحاد السوفياتي البلد الأم لفكره الإشتراكي وحلمه الشيوعي.
هي جدلية قائمة منذ أن بدأ الفكر السياسي بالتبلور في وعي البشرية، فأخذت الثورة جانب المعارضة والرفض والشعوبية والشعارات والمثاليات وأخذت السلطة جانب الواقعية والتطبيق والعمل والمبادرة والتنفيذ.
وتراكم التجارب أخبرنا أن الثورة لا تعمل محركاتها في أروقة السلطة والعكس صحيح وأي محاولة لدمجهما أو إسقاط إحداهما على الأخرى سينتج عنه تجربة فاشلة وستكون خديعة تمارس لإلهاء الناس وإحتكار تفكيرهم، وهذا ما فعله كاسترو وتجنبه تشي غيفارا.
أدرك غيفارا أن الثورة مختلفة عن السلطة وأن الهدف من النضال هو إسقاط أي شكل من أشكال الحكم ، أي ما يعرف بالشيوعية وهي المرحلة التي تلي الإشتراكية ولا يوجد فيها حكومة.
وإصطدم مع كاسترو في التفكير والأهداف والرؤية وإتخذ سبيله الخاص حيث خاض نضاله ولم يخن مبادئه وإن كانت غير واقعية.
أما كاسترو فتمسك برؤية غيفارا ومبادئه لكن في الخطابات فقط ، فمارس الخداع على نفسه وغيره  ودخل لعبة السلطة والتصفيات الداخلية وتقاسم الأرباح.

 

صراع الأفكار:

واحدة من المرتكزات الفكرية الثابتة عند كاسترو كانت كراهيته للولايات المتحدة الأميركية وهذا ما أكسبه حبا شعبيا في الكثير من بلدان العالم خصوصا في العالمين العربي والإسلامي.
هذا التأييد العالمي أو ما يعرف بالأوساط الكوبية ب "الأممية"  إستفاد منه كاسترو للتغطية على مشاكل حكمه الداخلي بعد العقوبات القاسية التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية فأعلن عن دعمه لجميع منظمات التحرر العالمي  وحول كوبا إلى قاعدة سوفياتية متقدمة نتج عنها أزمة الصواريخ الكوبية وواقعة خليج الخنازير.
لكن هذا الكره له إرتباطات بالنظرية الشيوعية التي تعتبر الرأسمالية ألد أعدائها وكانت ولا زالت الولايات المتحدة الأميركية متربعة على عرشها.
لم يكن الكره للرأسمالية من قناعات فقط بل من عقدة نقص موجودة لدى الفكر الشيوعي بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي.
مشكلة كاسترو أنه لم يتأقلم مع الزمن وعاند التاريخ وأصر على نزاعه الفكري مع الحداثة كمفهوم متعلق بأبعاد الحياة على كافة المستويات والتي تحققت بإتقان في العالم الغربي.
منازعته مع الزمن وصراعه مع الفكر الغربي هو محاولة مستمرة للإنتقام من الحداثة والزمن والتمسك بعقلية الحرب الباردة وفترة الخمسينات.
والعداوة لمفهوم الحداثة نراه يترجم في طريقة خطابه ومدته الطويلة ومضمونه الذي لم يتغير وإطلاقه للوعود الفارغة التي أصبحت من الزمن.
لم يتغير كاسترو مع الزمن ولم يحاول حتى لإدراكه فظاعة نتائج هكذا فعلة قد يدفع ثمنها هو بالدرجة الأولى لذلك تمسك بأسلوبه الخاص وحول كوبا إلى مملكة وإختصر العالم بها.
هو الكره لكل ما هو حديث والتمسك بنستولوجيا يريد جعلها حية ما دام حي فقضى على أي محاولة تغيير أو تجديد.
لذلك ستجد في فكر كاسترو  وأدبياته فخرا بأنه عاصر أكثر من رئيس أميركي ويعتبره إنجازا فيما العقل البشري الحديث اليوم يعتبر هذا إهانة للكرامة الإنسانية بمجرد أن يتربع إنسان على عرش بلد لأكثر من 50 عاما.
كذلك حرص كاسترو على تقديم نفسه دائما بالزي العسكري الكوبي حاملا السيجار الفاخر  لإظهار قوته أمام شعبه وهي بالحقيقة محاولة دائمة لإخفاء عجزه وضعفه وقلة ثقته بشعبه الغاضب والمحروم والفقير .
هذه العقلية التي تنتمي لعصر الحكم الفاشي والنازي  كان له إستحباب في العقل العربي والإسلامي.
فالأول إبتلى بمدارس سياسية كالبعث والناصرية وكلها حكمت بالعقلية العسكرية وروجت لثقافة " البوط " العسكري ونادت بالثورة التي تحولت إلى أداة لقمع أي محاولة جدية للمعارضة وإستهانت بالكرامة الإنسانية والتفكير البشري.
والثانية لم تتخلص من  تبعات " الخلافة الإسلامية" والحكم لمدة زمنية طويلة والولاء للشخص والعائلة وتمجيده وتقديسه وتكريس مفهوم التوريث القائم على صلة الدم ب " القائد الخالد".
هذه المفاهيم المكرسة في العالمين العربي والإسلامي والمهينة للعقل البشري كانت سببا في أن تتقبل 

أفكار كاسترو ومجدت رحيله.
وهذه المفاهيم مرتبطة بتقديس الماضي وتمجيد إنجازات السلف والعيش بالأوهام فهي أيضا معادية لمفهوم الحداثة.
إذا، هو صراع على الأفكار بين مدرستين وفكرين وأسلوبين في  الحياة،  الأول تصالح مع نفسه فأنتج تجربة في الحكم واقعية وعملية قائمة على أساس السلطة والمعارضة كما في الغرب والثانية تجربة مريضة لم تنتج إلا الويلات على الشعوب ونتج عنها مزيج متناقض بين السلطة والثورة كتجربة كاسترو والعالم العربي والإسلامي.

إقرأ أيضا : أميركا تصالح كوبا... لماذا الآن؟

إنجازات بطعم الفشل:

كان حكم كاسترو مثيرا للجدل حقق إنجازات على المستوى الطبي ومحو الأمية في كوبا لكنه أضعف إقتصاد البلاد وزاد منسوب الفقر والعوز وزج بمعارضيه في السجون ولم يحرر غوانتنامو من أيدي عدوه الأول أي أميركا وورث حكمه لأخيه راؤول كاسترو والأفظع من كل ذلك هو رضوخ نظامه في الأخير للمصالحة مع أميركا.
كان فشلا تأخر الإعلان عنه، لكن يبقى من المهم القول أن هذا الفكر لم يعد صالحا للحياة في عالم اليوم الجارف لأفكار بالية لم تعد تناسب سلم أولويات الحضارة البشرية.
وقف مرة كاسترو أمام شعبه ودعاهم إلى ترداد قول تشي غيفارا :" إلى النصر دائما".
هل إنتصر كاسترو  في حياته أو أن التاريخ فقط سينصفه؟
خسر كاسترو في الثورة و السلطة  وإنتصر  تشي غيفارا .
إكتشف ذلك غيفارا وإختار الثورة .

 

بقلم رئيس التحرير