ما زال الامر يبدو مثل نكتة جديدة، أطلقت في القاهرة، وراجت في دمشق، وشيعت في بيروت..مع انها اقل طرافة من أي من النكات التي صنعها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي طوال السنوات الثلاث من حكمه، سواء بثقافته الضحلة ولغته الساذجة التي صارت من علامات التعرف عليه والتعريف به.
ما زال الكشف الاستخباري عن وجود وحدات جوية مصرية مقاتلة في سوريا، والذي لم تنفه القاهرة حتى الساعة، (ولم يعترض عليه أحد من الوسط السياسي المصري)، يلوح وكأنه شكل من إشكال سياسة الهروب الى الامام التي يقوم بها السيسي، أو هو نوع من أنواع الضغط على السعودية وبقية دول مجلس التعاون الخليجي، او هو مسعى إضافي لكسب ود روسيا وعطفها في عقود التسليح والنفط والطاقة النووية، او هو جهد متجدد للتقرب من إيران والتواصل مع حلفائها.
يمكن العودة بالاحتمالات الى تلك الفترة العابرة من التقارب الشديد بين مصر وسوريا ما بين حربي العام 1967 و1973 مع العدو الاسرائيلي، والذي يتخطى زمن الوحدة المفتعلة، مثلما يمكن العودة بالقراءات الى السردية المصرية التي لم يتورع كبار مثقفي مصر وكتابها عن إعتمادها، ومفادها ان الفرعون توت عنخ آمون هو الذي أول من أرسى قاعدة ان بلاد الشام هي جزء من الامن القومي المصري، وهي القاعدة التي صارت عقيدة وطنية لدى جميع حكام وادي النيل من دون استثناء منذ ما قبل سبعة آلاف عام وحتى اليوم..
لكن التاريخ الذي يحفظ بالفعل تلك الصفحات المختصرة من القرب المصري السوري، يسجل أيضا الكثير من الوقائع المسهبة عن حالات الصراع والتنافس بل والحرب بين بلاد الشام وبين بلاد النيل، التي كانت تشتد وتعنف وتشهد فصولا متلاحقة من الهيمنة والعزلة، خصوصا عندما لا يكون هناك عدو مشترك، فعلي او مفتعل، وعندما لا تكون هناك مصلحة موحدة في مواجهة خصم واحد في الاقليم او في محيطه القريب.
اليوم هناك عدو مشترك.هو زعم راسخ في البلدين مثلما هو إدعاء ثابت في مختلف انحاء العالم. إنه تنظيم "داعش"، الذي بات يتصدر الحرب على الجبهات السورية كافة، ويدير في الوقت نفسه المواجهة مع الجيش المصري بواسطة خلاياه المنتشرة في سيناء. ولمواجهة ذلك العدو الخفي، يخرج سلاحا الجو المصري والسوري في مهمات عشوائية قتلت حتى الان من المدنيين والعزل أضعاف أضعاف ما قتلت من الدواعش، حتى ضاعفت من خطر التنظيم وشبكاته المتمددة في كل مكان.
اليوم، يخرج سلاح الجو المصري كما يبدو في مهمة إضافية، بعيدة المدى. يقال انها حتى الان، محصورة بجمع المعلومات وتنسيقها وتبادلها، (وتقاسمها مع الاسرائيليين والاميركيين) وتسلم المطلوبين الذين إكتشفت إجهزة الاستخبارات انهم يتعاونون وينسقون في ما بينهم ويشكلون خلايا ناشطة في البلدين معاً. وهذا صحيح الى حد ما. فالتنظيم عربي بالمعنى الجغرافي للكلمة، وهو لا يعترف بالحدود الفاصلة بين الدول العربية، ولا يكرر تجربة التنظيم الأم، "القاعدة"، الذي كان طابعه الغالب وتشكيله القيادي ومركز عملياته أممياً.
المواجهة المشتركة المصرية السورية مع ذلك التنظيم قائمة منذ ما قبل الثورة في البلدين، وقد استمرت بعدها، حتى في عهد الرئيس المصري الاخواني محمد مرسي. خروج الطيران الحربي المصري في مثل هذه المهمة الان، يتوج سياقاً واضحاً من التفاعل الامني والعسكري والسياسي بين النظامين في القاهرة ودمشق، الآخذ في الاتساع.. حتى بات يمكن النظر اليهما راهناً بوصفهما نظاماً واحداً، لا يميز بينهما سوى الاسم. جمعهما في الماضي القريب شعور مشترك بالخطر من حراك الجمهور المدني في البلدين، ثم تعمق حلفهما الحالي في أعقاب الانقلاب العسكري الذي شهده البلدان في فترة واحدة تقريباً.
الان.عندما يشرع سلاح الجو المصري في تنفيذ عملياته السورية فانه لا يكتب صفحة جديدة من التاريخ المشترك، ولا يطلق نكتة سمجة، بل هو يضيف الى رصيد مصر ونظامها الحالي توغلاً جديداً في لعبة الدم.. وشراكة مشينة في واحدة من أسوأ المذابح في التاريخ الحديث، مذبحة بلاد الشام التي لا تُغتفر.     
 

المدن