أولاً: خطاب عون الاستقلالي

كشف خطاب الرئيس عون الذي تلاه عشية عيد الاستقلال عن ارتباكٍ واضح في الشكل والمضمون، في المبنى والمعنى، وقد طبع الأسلوب الإنشائي معظم فقرات الخطاب، وقد لاحظ الرئيس (بشكل خفي) فارق ما بين "ياشعب لبنان العظيم" و"أيّها اللبنانيون"، فقد واكبت النداء الأول منذ ربع قرن الحماسة وعنفوان الشباب والايمان الصادق بقيام دولة الاستقلال والسيادة والحرية (دولة الشعب)، في حين رافقت النداء الثاني بالأمس ضغوط "الاكراهات" العديدة التي تحيط بالرئيس من كلّ جانب فتحُدّ من حرية حركته وسلوكه، لذا كان مضطراً إلى انتقاء الكلمات المحايدة ورصفها بعناية فائقة لئلاّ تخدش ورقة التفاهم مع حزب الله من جهة، وتُلبّي تطلُّعات القوات اللبنانية من جهة أخرى، ولا تُعكّر في نفس الوقت صفاء العلاقات المستجدة مع تيار الحريري، وباختصار على الرئيس أن يتشبّه بمعاوية بن أبي سفيان كما وصفه ذات يومٍ الشعبي فقال: كان معاوية كالجملّ الطبّ، إذا سُكت عنه تقدم، وإذا رُدّ تأخر، (والجمل الطبّ الحاذق بالمشي، وهو لا يضعُ يديه إلاّ حيث يُبصر).


ثانياً: الأقوياء يسقطون على عتبة القصر

كان الرئيس الراحل بشير الجميل يطمح أن يكون أولّ رئيسٍ "قوي" تطأ قدماه عتبة القصر الجمهوري، فبشير الذي "استقوى" بالدبابات الإسرائيلية كان يبدو قوياً بما فيه الكفاية داخلياً، مع فائض قوة في بعض الأحيان، وقد نمّ خطاب قسمه الذي لم يُتل في البرلمان، بل نُشر بعد استشهاده،عن ذلك، وهو يشبه البيان رقم واحد الذي يتلوه الانقلابيون، فقد رأى بشير نفسه "منتصراً في حرب أكثر منه فائزاً في انتخابات رئاسية" حسب تعبير فواز طرابلسي، لذا لم يجد نفسه مجبراً على شكر النواب الذين انتخبوه، بل عليهم أن يستعدّوا لمساعدته، ولطمأنة الطوائف قال: كل "الجماعات الحضارية" يجب أن تشعر بأنّها مشاركة في الحكم ، طالما هي تحت رئاسته.
وكان بشير يرى (دائما في خطاب القسم) أنّ لبنان ليس بلداً مسيحياً، لكنه وطن المسيحيّين والمسلمين اللبنانيين، وليس (بالتعريف) عربياً، بل يعرف بانتمائه "المشرقي" وصلاته العربية، وهذا نكوص عن ميثاق عام ٤٣. أمّا الدولة فهي كلٌّ متكامل لا تجوز معارضة شرعيتها، أو معارضة أي مؤسسة من مؤسساتها أو أي جهاز من أجهزتها الإدارية والأمنية، ويروي المقربون منه أنّه كان ينوي تكليف السيد سليمان العلي تشكيل أول حكومة في عهده، وهذا يؤشّر أن من يحكم لبنان الجديد هم المسيحيون المنتصرون مع عُتاة المحافظين والمهمّشين من وجهاء الإسلام السياسيين ،( ذُكر أنّ كاتب خطاب قسم بشير هو سجعان قزي ،وكان مستشارا مقرّباً ، النص الكامل في جريدة النهار ١٥ أيلول ١٩٩٢).
دعا بشير الجميل كافة القوى إلى الإنسحاب من الأراضي اللبنانية وإخلائها للقوى العسكرية الشرعية، وكان يرى أنّ ما جرى في لبنان ليس حرباً أهلية ،بل هي حرب ضد لبنان، وأنّ الأديان التوحيدية تتصارع في المنطقة، ولبنان هو البلد المسيحي "المتمرد" الذي يبتعد عن الإسلام واليهودية، الأولى تسعى لاعادتنا إلى أيام الخلفاء، والثانية إلى أيام الأنبياء، ويستشهد بقول لوالده بيار الجميل: الشرق لن يكون شرقاً دون مسيحيّي لبنان.وأخيرا وفي مجال العلاقات الدولية ، لبنان في رؤية بشير هو جزء من العالم الحر، يسعى لأن يكون "شريكاً" لذلك العالم لا ضحية له.
لم يعش بشير الجميل لينفذ أيّاً من بنود برنامجه، فسقط شهيداً تحت الركام عشية الرابع عشر من أيلول عام ١٩٨٢، ولم تطأ قدماه عتبة القصر الجمهوري. أما الرئيس الثاني الذي كان يطمح أن يكون رئيساً قوياً ومستقلاً عن إرادة الانتداب السوري فهو الرئيس الشهيد رينيه معوض، الذي قضى بسيارة مفخخة يوم عيد الاستقلال، وهو لم يتمكن من دخول قصر بعبدا بعد انتخابه، حيث كان قد "احتلّه" الجنرال ميشال عون وحوّله إلى بيتٍ للشعب.

إقرأ أيضا : السّلال الفارغة والحقائب المتنازعة


ثالثاً: الرئيس "القوي" عون يدخل القصر "مهيض الجناح"

ما إن خلت سدة الرئاسة قبل أكثر من عامين حتى تنادى أقطاب الطائفة المارونية للاجتماع برعاية البطريرك الراعي، واتفقوا على انتخاب رئيس قوي في الطائفة ،وحصرت المنافسة بين الجنرال عون والدكتور جعجع، والرئيس أمين الجميل والوزير فرنجية، وتعطلت الانتخابات أكثر من تسعة وعشرين شهراً، ولم يتم أي توافق على شخصية وفاقية، وكانت الحجة دائما أنّ الجنرال هو الأقوى برلمانياً وشعبياً، وهاهو اليوم قد دخل القصر من بابه المشرّع،، بعد أن كاد يفقد معظم مميزات القوة عند أي رئيس، فالرئيس عون لم يتمكّن من دخول القصر إلاّ بعد تبنّيه واحتضانه من قبل حزب الله، الذي ينتظر أن تُردّ إليه التحية بأحسن منها، وهو لم يكن ليدخله أيضا لولا الانعطافات الحادة عند القوات أولاً والمستقبل تالياً، مما يعيق حرية حركته ويؤثر على استقلالية خياراته المصيرية، لا سيّما أنّ "الشعب" ينتظر من قائده ومنقذه وحامي حمى المسيحيين أولاً والمسلمين تالياً ،أن ينجز مهام الإصلاح والتغيير، واستكمال السيادة والاستقلال والنأي بالنفس عن صراعات المنطقة، وأنّ يبُرّ بما ورد في خطاب القسم ، لا أن يبدو "مهيض الجناح" كما بدا واضحاً في خطاب الاستقلال الذي ينضح بالعموميات وتسوده لهجة التردد والارتباك، والخجل والحياء من تسمية الأمور بمسمياتها، وإنّ غداً لناظره قريب.