في تشرين الأوّل 1990 خرج العماد ميشال عون من القصر الجمهوري مُكرَهاً، وفي تشرين الأوّل 2016 عاد إلى القصر رئيساً للجمهورية. بين التشرينين ستة وعشرون عاماً، تخللتها محطات ومطبّات وافتراقات وتقلّبات وتحالفات وتفاهمات في كلّ الاتجاهات، كلّها عبّدت الطريق إلى بعبدا، وطوَت صفحة الفراغ الذي احتلّ الموقع الأوّل في الدولة لسنتين ونصف، وصار للبنان رئيسٌ للجمهورية. رئيس يأمل أن يحقّق الكثير، ولقد توجَّه برسالة معبِّرة عبر تلفزيون الـ»أو تي في» قائلاً: «فليَطمئنّ اللبنانيون، فوعدي لهم أنّه ستكون لهم دولة، وأنّها ستُبنى على صخر وحدتِنا، وما يُبنى على صخر لا تهزّه ريح ولا يَخشى عاصفة».
الحدث كان في ساحة النجمة، بولادة طبيعية تحت قبّة البرلمان للرئيس الثالث عشر للبنان، وفي جلسة انتخابية هي الأطول في التاريخ اللبناني، حملت فيها أصواتُ 83 نائباً زميلَهم «النائب» ميشال عون الى سدة الرئاسة. في مقابل 44 نائباً، وهي نسبة تزيد عن ثلث العدد الإجمالي للنواب (43 نائباً)، صوّتوا بغالبيتهم (36 صوتاً) اعتراضاً بالورقة البيضاء، فيما صوّت الباقون لشعارات «ثورة الأرز».

لقد أراد الرئيس عون فوزاً واضحاً ومعنوياً، لكنّ نسبة الأصوات التي نالها وكذلك النسبة العالية لأصوات الأوراق البيضاء، جاءت مفاجئةً، ومخالفة لكلّ الاستطلاعات التي سبَقت الجلسة وتحدّثت عن فوز في الدورة الأولى بما يزيد عن تسعين صوتاً.

كان التعويل واضحاً على فوز عون من الدورة الأولى، إلّا أنّ خريطة الأصوات النيابية، فرَضت عَقد دورتين، والنسبة العالية من المعترضين، زرَعت في بعض الزوايا السياسية شيئاً من الإرباك والتوتر والقلق من «كمينٍ ما» يشتّت الأصوات ويلقيها خارج السياق الذي انتهت إليه جلسة الانتخاب.

وثمّة أسئلة كثيرة وجّهت في هذا الاتّجاه وذاك، ليس حول الكتل النيابية المعارضة أصلاً، بل عن موجبات «التبدّل» في مواقف نوّاب بعض الكتل والمكوّنات النيابية التي يفترض أنّها تنتمي الى ضفّة المؤيدين، وأسباب لجوء هؤلاء الى الورقة البيضاء.

على أنّ كمّية الأوراق البيض التي ظهرت في مقابل النتيجة التي حاز عليها عون، أكّدت صحة ما كان قاله رئيس مجلس النواب نبيه بري بأنّ النصاب في جيبه، مع الإشارة الى انّ كتلاً نيابية وازنة قد تمنّت عليه، مباشرةً أو مداورةً، بأن يلعب لعبة النصاب وتطييره. وثمّة اتصالات عدة ورَدت من رؤساء هذه الكتل تتمنّى عليه ان يلعب ورقة النصاب لتطيير جلسة الانتخاب، إلّا أنّه رفضَ ذلك رفضاً قاطعاً لأنه لن يسجّل عليه هذه المسألة، مؤكّداً التزامه الدستور، ولتجرِ الانتخابات ومن يفُز يفز.

مصادر مجلسية

مصادر مجلسية أكّدت لـ«الجمهورية» أنّ عدم فوز عون من الدورة الأولى كان معلوماً لدى المراجع المجلسية، خلافاً لكلّ الاستطلاعات والأرقام التي كانت تُضَخّ من هنا وهناك والتي تحدّثت عن فوز كبير يصل إلى 95 صوتاً في الدورة الاولى، حتى إنّ أحد المسؤولين دخلَ في رهان مع بعض هؤلاء وقال لهم: «إنتظِروا جلسة الغد».

تصريف واستشارات

في النتيجة، صار عون رئيساً للجمهورية. وبعودته الى بعبدا، ارتفعَ العَلم اللبناني مجدداً فوق القصر الجمهوري، وعادت الحياة لتدبّ مجدداً في شرايين الرئاسة الأولى بعد طول انتظار في كوما الفراغ، استهلالية العهد الجديد كانت قبولَ استقالة حكومة تمّام سلام والطلب إليها الاستمرار في تصريف الاعمال ريثما يتمّ تشكيل حكومة جديدة، ومن ثمّ دعوة وجّهها رئيس الجمهورية الى الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية الرئيس المكلّف تشكيلَ الحكومة العتيدة يومي الغد وبعده.

ومع طيّ صفحة الفراغ الرئاسي، وانتهاء التخمينات والافتراضات وبعد تحوّل الحكومة حكومة تصريف أعمال، يُطرح السؤال: 

هل بدأت رحلة الألف ميل للرئيس المكلف سعد الحريري في التكليف والتأليف، في ضوء ما شهدته جلسة انتخاب رئيس الجمهورية وحجم الأوراق البيض فيها؟

وبعد عدمِ تسجيل لقاءات مباشرة وودّية بين الحريري وبري، فيما انتهت عملية انتخاب رئيس الجمهورية بخلوةٍ بين برّي وعون كانت ودّية، خصوصاً أنّ الطرفين كانا في هذه الجلسة منسجمين وتعاطيَا مع الحدث الانتخابي من موقعهما كرَجلي دولة وكما يستحقّ هذا الحدث الدستوري.

دلالات ورسائل

على أنّ ما حصَل في الجلسة الانتخابية صاغ مجموعة رسائل سياسية وحملَ مفاجآت عدة، أبرزها:

ـ حضور جميع النوّاب.

ـ عدم تمكّنِ عون من الحصول على ثلثَي الأصوات على رغم الانسحاب «التكتيكي» للنائب سليمان فرنجية، وكذلك عدم التمكّن من الفوز في دورة الاقتراع الأولى، علماً أنّ الإحصاءات القريبة والبعيدة، بقيَت حتى لحظة انعقاد الجلسة تتحدّث عن فوز يفوق التسعين صوتاً.

ـ العدد الكبير وغير المتوقع من الأوراق البيض. وهناك من ردَّ هذا الأمر إلى حصول ما يمكن وصفه بـ»تمرّد» داخل تيار»المستقبل» و»اللقاء الديموقراطي» على التسوية السياسية أكثر ممّا كان متوقّعاً، الأمر الذي أزعجَ الحريري.

وإذا كان هذا الأمر مقصوداً من بعض القوى السياسية ليوصلَ رسالة سلبية وغير مريحة لعون، مفادُها «أنّك لستَ رئيساً بالثلثين»، فهو في الوقت نفسه رسالة سلبية الى الحريري تؤشّر له بأنّ تكليفه تشكيلَ الحكومة لن يكون بالنسبة التي يريدها عالية، وبأنّ مرحلة التأليف لن يكون طريقها سهلاً، ما يعني حكماً أنّ مشوار التأليف سيكون صعباً، لا بل شاقّاً.

ـ تعمّد بعض النواب تسخيف العملية الانتخابية، عبر تصرّفات كاريكاتورية لم تخلُ من التهريج السياسي المرئي والمسموع أمام الناس، وكذلك امام عيون اعضاء السلك الديبلوماسي العربي والدولي الذي حضَر في هذا الحدث، تارةً بالتصويت للنائب جيلبيرت زوين، وتارةً ثانية بالتصويت للنائب ستريدا طوق، وتارةً ثالثة لميريام كلينك، وتارةً رابعة لشخصية إغريقية، وتارةً خامسة بمحاولة «خربطة» الأرقام والتعمّد، لمرتين متتاليتين، رميَ مغلفات وأوراق انتخابية تزيد عن عدد النواب الحضور المقترعين.

- تعمّد قوى نيابية واضحة أنّها من فريق 14 أذار، التصويت سياسياً لـ»ثورة الأرز»، كتعبير عن المرارة من المنحى الذي سَلكه الحريري بخياره الانتخابي الجديد.

خطاب القسم

وكان الرئيس عون قد أدّى اليمين الدستورية وقال في خطاب القسم : «من يخاطبكم اليوم هو رئيس الجمهورية الذي أوليتموه ثقتكم لتحمّلِ مسؤولية الموقع الأوّل في الدولة». وأضاف «أوّل خطوة نحو الاستقرار المنشود هي في الاستقرار السياسي، وفي هذا السياق تأتي ضرورة تنفيذ وثيقة الوفاق الوطني بكاملها، وتطويرها وفقاً للحاجة».

وشدّد عون على ضرورة ابتعاد لبنان عن الصراعات الخارجية مع اعتماد سياسة خارجية مستقلة تقوم على مصلحة لبنان العليا. وتعهّد التزام ميثاق جامعة الدول العربية وأعلنَ أنّنا سنتعامل مع الإرهاب استباقياً وردعياً وتصدّياً حتى القضاء عليه.

وفي الصراع مع إسرائيل أكّد «أنّنا لن نألوَ جُهداً ولن نوفّرَ مقاومةً في سبيلِ تحريرِ ما تبقّى مِن أرضٍ لبنانيةٍ محتلّة. وتحدّث عن إقرار قانون انتخابي يوفّرُ عدالةَ التمثيلِ قبلَ موعدِ الانتخاباتِ المقبلة، وعن تحريرِ الأمن والقضاء من التبعية السياسية، والسعيِ نحو اللامركزية الإدارية ومكافحةِ الفساد وتعزيزِ أجهزة الرقابة، وإطلاقِ نهضةٍ اقتصادية.

ووصَف مراقبون «خطاب القسَم» بالخطاب المدروس والواقعي، غير فضفاض، لم يرسم العناوين الكبرى والصعبة ولا الوعود الضخمة الصعبة المنال، بل لامسَ جوهرَ المشاكل ورسَم خريطة الطريق الى كيفية مقاربة الاولويات، وحدَّد مسار المعالجة، وكان جريئاً في إطلاق التعهّد بإنجاز قانون جديد للانتخابات قبل نهاية ولاية المجلس الحالي، كما اختارَ عون في هذا الخطاب التعابيرَ التي تمدّ اليَد ولا تستفزّ أحداً.

وفي السياق ذاته، وصَفت مصادر سياسية خطابَ القسَم بـ»الخطاب السيادي»، أعاد إلى الأذهان صورةَ عون ما قبلَ اصطفافه السياسي، وقالت: «كان رئيس الجمهورية جنرالاً بكلّ ما للكلمة من معنى» .

وأكّدت المصادر لـ«الجمهورية» إنّ عون ومنذ اللحظة الأولى لانتخابه تخطّى الاصطفافات السياسية (8 و14 آذار)، والانقسامات الطائفية، وارتفع إلى مستوى الدستور والسيادة اللبنانية. وقد تضمّن خطابه نقاطاً أساسية وإن لم يكن طويلاً، ورسَم صورة عن العهد الجديد.

ولاحظت المصادر أنّ عون شاء توجيه رسائل أيضاً إلى المجتمعَين العربي والدولي، ولم يقارب مسألة حياد لبنان، فضلاً عن أنه لم يخصّ المقاومة بفقرة في خطابه، بل مرَّ عليها بشكل عام في سياق توصيفه لكيفية مواجهة العدوّ الإسرائيلي، كذلك تحاشى الحديث عن اتّفاق الطائف الذي ورَد في خطابات رؤساء الجمهورية من العام 89 حتى 2014 (الياس الهراوي إميل لحود وميشال سليمان)

خطاب برّي

وقبَيل خطاب القسَم، كان خطاب التهنئة الذي قدّمه بري بعد إعلانه فوز عون، وقد توجّه في مستهله، بغمزةٍ نحو عون الذي طالما اعتبَر المجلس الحالي غيرَ شرعي ربطاً بالتمديد لولايته، حيث بادرَ بري عون قائلاً: «يسرّني يا فخامة الرئيس أن أرحّب بكم تحت قبّة البرلمان الذي أنت أحد أركان شرعيته اليوم.. وهذا المجلس يعهد إليكم قيادة سفينة البلاد الى برّ الأمان».

وأكّد بري أنّ «التهديد الرئيس لبلدنا ينبع من «إسرائيل»، وهي تواصل عرقلة تنفيذ القرار 1701 وتحتلّ أجزاء عزيزة من أرضنا»، مضيفاً: «ما تقدّم يفترض دعمَ الجيش بالعتاد والعديد وتعزيزَ المؤسسات الأمنية للقيام بواجبات الدفاع الى جانب المقاومة والشعب» وأشار الى أنّ «الأولويات الآن تنطلق من التفاهم على قانون عصري للانتخابات، وهذا لا يحقَّق إلّا باعتماد النسبية».

ووصَفت مصادر متابعة خطابَ بري بأنّه خطاب بروتوكولي ركّز على الأولويات وتضمّنَ في مضمونه رسالة مدّ اليد للتعاون مع الرئيس الجديد، وحدّد الأولوية للعهد المقبل، وهي تتمثّل بقانون الانتخاب.

وحرصَت أوساط نيابية بارزة على القول إنّ العلاقة بين عون وبري ليست سيئة كما يجري تصويرها، ولم تكن كذلك يوماً، وذكّرَت بأنّ بري كان الى جانب عون ومع وصوله الى رئاسة الجمهورية في فترةِ ترشيح الحريري لرئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، حيث عُقِدت يومها جلسة الانتخاب وتمّ التصويت ونالَ جعجع نسبة من الأصوات في مقابل أوراق بيض تمّ التصويت بها من قوى سياسية ضدّه، ومِن ضمنها أوراق بيض قدّمها بري وكتلته، وكان هذا تصويتاً غير مباشر لمصلحة عون.

برّي مرتاح

وأعربَ برّي عن ارتياحه إلى ما جرى في مجلس النواب وإلى مضمون خطاب القسَم. وقال أمام زوّاره: لقد حصَل ما كنتُ أتمنّاه ويتمنّاه كلّ اللبنانيين، الآن أصبح لدينا رئيس جمهورية، وهذا يعني أنّ مرحلة العمل يجب أن تبدأ، وكما قلت هي مرحلة الجهاد الأكبر.

وعمّا إذا كان خطابه خطابَ مدّ اليد، قال برّي: أكيد، أكثر من ذلك، هو تحفيز لكلّ القوى من دون استثناء، وفي المقدّمة رئيس لجمهورية للتعاون معاً بما يُخرج البلد من هذه الأزمات التي يعيشها.

طبعاً، وقد أشرتُ الى ذلك في خطابي وعبّرتُ عن كامل الاستعداد لأن نكون أوّلَ المتعاونين مع فخامة الرئيس لإطلاق عجَلة الدولة من جديد، والأساس هنا كما قلت وأكرّر هو قانون الانتخاب الذي يشكّل عنصر الإنقاذ الوحيد للدولة وكلّ المؤسسات ويصحّح التوازن والتمثيل لكلّ المكوّنات.

وقد تطرَّقنا أنا والرئيس عون في الخطابين إلى هذه النقطة، وأنا مرتاح لتأكيد فخامة الرئيس على إنجاز قانون الانتخاب قبل نهاية ولاية المجلس الحالي.

وعن العلاقة مع«حزب الله» وكيفية التعاطي مع مرحلة التأليف وما إذا كان سيسمّي الحريري لرئاسة الحكومة، قال برّي: كل أوان لا يستحي من أوانه، أمّا بالنسبة للعلاقة مع «حزب الله» فلا أحد يشغل باله في هذا الأمر وانتظروا.

«المستقبل»

وفي السياق، أبدت مصادر في «المستقبل» ارتياحَها إلى خطاب القسَم، وقالت لـ«الجمهورية» إنّه «خطاب متوازن وهادئ ومشجّع». وأضافت: «لقد دخلنا التسوية بنِيّة طيّبة».

وكرّرت المصادر التأكيد أنّه «إذا كان هناك أحد يودّ أن يعرقل مهمّة تأليف الحكومة، فإنه بذلك يكون يعرقل عهدَ الرئيس ميشال عون وليس الرئيس الحريري.

ولفتَت إلى أنه «منذ أن بدأ الرئيس الحريري مبادرته، سمعنا الكثير، واتّضَح في ما بعد أنّ الجوَّ شيء والواقعَ شيء آخر». وقالت: «نحن مرتاحون لأنّ الفراغ انتهى».

الحريري

وكان الحريري قد صرّح مِن مجلس النواب بعد جلسة الانتخاب: «كنّا بوضعٍ خطير كثيراً، واليوم كانت بداية نهاية الأخطار التي كانت تحوم حولنا».

أضاف: «ومهما كان المستقبل بعد اليوم، فنحن سنمرّ بالأمور الدستورية والمؤسسات التي انبثقَ عنها الدستور، وإن شاء لله ستحصل المشاورات، وأنا لن أستبقَ الأمور، وإنّني داخلٌ على الأمور بحسنِ نيّة مع الجميع، وإن شاءَ الله يكون خير للجميع، وإن شاءَ الله تكون حكومة وحدة وطنية لكلّ اللبنانيين»