بين 13 تشرين و31 تشرين.. تاريخان متباعدان متعاكسان في الأرقام والأزمان والمعادلات، الأول سجّل خروج ميشال عون من قصر بعبدا قائداً عسكرياً منفياً من الجمهورية تحت هدير «سوخوي» الأسد الأب، ليسجّل الثاني عودته بعد 27 عاماً إلى القصر رئيساً منتخباً للجمهورية بينما «سوخوي» الأسد الابن تهدر قصفاً وقتلاً وتهجيراً فوق رؤوس السوريين دفاعاً عن «قصر المهاجرين». أمس وبعد عامين ونصف العام من الشغور بات للبنانيين رئيس للجمهورية، وبات العماد عون ليلته الأولى في القصر الجمهوري رئيساً مفتتحاً عهده بقسم وطني واعد بمضامينه الدستورية والسيادية والحيادية، مكرّساً في «عناوينه الكبرى» وثيقة الطائف وعروبة لبنان والنأي بالنفس عن النيران المشتعلة في المحيط، فضلاً عن تأكيد مسؤولية الدولة في حماية مواطنيها ووجوب تعزيز قدرات الجيش لتمكينه من الحفاظ على السيادة الوطنية و»ردع كل أنواع الاعتداءات» عليها. 

إذاً، وفي الجلسة السادسة والأربعين، أتمّ مجلس النواب واجبه الدستوري أمس بانتخاب الرئيس الثالث عشر للجمهورية منجزاً الاستحقاق الرئاسي في جلسة مارتونية انتهت بعد دورتين و4 جولات اقتراع إلى انتخاب عون رئيساً بأغلبية 83 صوتاً مقابل 36 ورقة بيضاء وصوت للنائب ستريدا طوق و7 أوراق ملغاة (5 حملت عبارة «ثورة الأرز في خدمة لبنان» وواحدة حملت اسم «زوربا اليوناني» وواحدة حملت عبارة «مجلس شرعي أم غير شرعي»). 

أما في وقائع الجلسة التي حضرها رؤساء وممثلو البعثات الديبلوماسية والأسلاك العسكرية، فقد انطلقت بنصاب مكتمل من 127 نائباً بعد استقالة النائب روبير فاضل، لتبدأ عملية الاقتراع في دورة أولى لم ينل خلالها عون أصوات ثلثي أعضاء المجلس النيابي بفارق صوتين مع حيازته على 84 صوتاً مقابل 36 ورقة بيضاء وصوت للنائب جيلبرت زوين و6 أوراق ملغاة (5 حملت عبارة «ثورة الأرز في خدمة لبنان» وواحدة حملت اسم ميريام كلينك)، الأمر الذي اضطر المجلس إلى الخوض في دورة ثانية لم تخلُ من «هرج ومرج» على مدى مرحلتين انتخابيتين جرى إلغاؤهما بسبب «الظرف الـ128» الطارئ على صندوقة الاقتراع، إلى أن كانت المرحلة «الثالثة ثابتة» بعد تدبير استثنائي اتخذه رئيس المجلس نبيه بري وقضى بوضع الصندوقة أمام منصة الوزراء طالباً من أميني سر المجلس النائبين مروان حمادة وانطوان زهرا مراقبة عملية الاقتراع والتأكد من إسقاط كل نائب ظرف واحد فيها. وهكذا كان، فانتهت الجلسة إلى إعلان بري انتخاب عون رئيساً للجمهورية بأكثرية 83 صوتاً، ليعود فيفتتح، بعد تلاوة محضر الجلسة الانتخابية، جلسة القسم مستهلاً إياها بكلمة غمز فيها من قناة التأكيد لعون على شرعية المجلس النيابي الحالي الذي انتخبه، قائلاً له: «يسرني يا فخامة الرئيس أن أرحب بكم تحت قبة البرلمان الذي أنت أحد أركان شرعيته اليوم»، قبل أن يختم كلمته بإبداء استعداد المجلس «لمد اليد» إلى العهد الرئاسي الجديد «إعلاءً للبنان». 

خطاب القسم

ثم صعد عون إلى منصة رئاسة المجلس النيابي حيث أقسم اليمين الدستورية رئيساً للبلاد وألقى بعدها خطاب القسم لافتاً فيه إلى أنه يأتي رئيساً «في زمن عسير ويُؤمل منه الكثير». وشدد في أبرز عناوين خطابه على أنّ «أول خطوة نحو الاستقرار المنشود هي في الاستقرار السياسي»، مؤكداً استحالة تأمين ذلك «إلا باحترام الميثاق والدستور والقوانين من خلال الشراكة الوطنية التي هي جوهر نظامنا وفرادة كياننا، وضرورة تنفيذ وثيقة الوفاق الوطني بكاملها من دون انتقائية أو استنسابية وتطويرها وفقاً للحاجة من خلال توافق وطني». أما في الشق المتعلق بتموضع لبنان الرسمي في مقابل الأزمات والمحاور الخارجية، فوضع عون في طليعة أولويات عهده «منع انتقال أي شرارة» إلى لبنان من «النيران المشتعلة حوله»، مؤكداً ضرورة إبعاده «عن الصراعات الخارجية ملتزمين احترام ميثاق جامعة الدول العربية وبشكل خاص المادة الثامنة منه، مع اعتماد سياسة خارجية مستقلة تقوم على مصلحة لبنان العليا واحترام القانون الدولي». 

وإذ أكد في ما يتعلق بالصراع مع الاحتلال الإسرائيلي على حق لبنان في تحرير ما تبقى من أراضيه محتلاً ووجوب حمايته من أطماع العدو، تعهد عون في الوقت عينه التعامل مع الإرهاب «استباقياً وردعياً وتصدياً حتى القضاء عليه»، مشيراً إلى ضرورة معالجة مسألة النزوح السوري من خلال إيجاد حل للأزمة السورية يضمن عودتهم إلى وطنهم.

اقتصادياً، دعا عون إلى وضع «خطة اقتصادية شاملة مبنية على خطط قطاعية»، معرباً عن قناعته بأنّ «الدولة من دون مجتمع مدني لا يمكن بناؤها»، وبأنّ «استثمار الموارد الطبيعية في مشاريع منتجة يؤسس لتكبير حجم اقتصاد حر قائم على المبادرة الفردية وعلى إشراك القطاع الخاص مع القطاع العام من ضمن رؤية مالية هادفة ومتطورة».

ترحيب عربي ودولي

وما أن انتقل من ساحة النجمة إلى القصر الجمهوري حيث استعرض الحرس الجمهوري وتم التقاط الصور التذكارية له وتقليده أوسمة الرئاسة الأولى متسلماً بذلك سلطاته الدستورية، بدأ عون بتلقي اتصالات ورسائل عربية ودولية مرحبة بإنجاز الاستحقاق الرئاسي ومهنئة بانتخابه، وسط تأكيد متقاطع يعبّر عن التطلع إلى دعم استقرار لبنان ووحدة أبنائه. في حين سارع الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى احتواء الموقف الرسمي لبلاده إثر محاولة مستشار المرشد علي أكبر ولايتي تصوير انتخاب عون «انتصاراً» لحزب الله على سائر اللبنانيين، فشدد روحاني في اتصال هاتفي مع عون على أنّ «إيران على قناعة بأن هذا الانتخاب هو ليس انتصاراً لتيار خاص بل دليل على التعايش السلمي بين جميع الطوائف اللبنانية ونجاح باهر للشعب اللبناني».

استشارات التكليف

وبُعيد طلبه من حكومة الرئيس تمام سلام الاستمرار في تصريف الأعمال ريثما تُشكّل حكومة جديدة، حدد عون يومي الغد وبعد الغد موعداً لإجراء الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية الرئيس المكلف تشكيل الحكومة العتيدة، على أن تبدأ هذه الاستشارات عند الساعة العاشرة والربع من صباح الأربعاء وتختتم عند الحادية عشرة والنصف من صباح الخميس.