لم تكد تنتهي الساعتان الأطول في تاريخ الجمهورية الثانية، حتى تنفّس الجميع الصعداء: ميشال عون رئيساً للجمهورية بأكثرية 83 صوتاً.
كل التقديرات التي كانت تشي بأن «الجنرال» سينال أكثر من 86 صوتاً، أي أكثرية الثلثين من الدورة الأولى، فيُتوّج رئيساً خلال أقل من نصف ساعة، أطاحتها مجريات جلسة انتخابية لا مثيل لها منذ الاستقلال حتى الآن. احتاج الأمر إلى أربع دورات انتخابية: أولى نال فيها ميشال عون 84 صوتاً وثانية وثالثة ألغيت نتائجهما قبل أن تفرز، بسبب تجاوز عدد المغلفات عدد الحضور(128 مغلفاً بدلاً من 127)، فكان لا بد من دورة رابعة، مع إجراءات تكفل الأمان الانتخابي تولتها هيئة مكتب المجلس، على مرأى من رأي عام كان يتابع وقائع الجلسة على الهواء مباشرة في لبنان وشتى أنحاء العالم، وأيضاً في حضور سفراء الدول الكبرى والصغرى على حد ســواء.
كان السؤال الذي لم يفارق «الجنرال» وبعض المحيط القريب جداً منه: هل ثمة «قطبة مخفية» قد تطيح التفاهم السياسي المبرم لمصلحة مرشح آخر أو استمرار الفراغ وماذا إذا تم تهريب النصاب أو تم افتعال إشكال في مجلس النواب أو خارجه؟
كانت الأنفاس محبوسة والشكوك كثيرة، إلى أن ورد الرقم 65 في الدورة الرابعة. عندها تبدلت ملامح ميشال عون المتجهمة، لتقفز الضحكة من عينيه بينما كان التصفيق والفرح يمتدان من المجلس إلى كل مكان. فاز لا برئاسة، بل بحلم لم يبارحه منذ ثلاثة عقود من الزمن وربما أكثر، وتحديداً منذ جلسات دير سيدة البير، يوم جلس الضابط «المدفعجي» في الجيش يقارع أركان «الجبهة اللبنانية» في نهاية سبعينيات القرن الماضي، بعناوين الشراكة مع كل المكونات اللبنانية وبالنظرة إلى القضية الفلسطينية والعلاقة مع سوريا.
هو الرئيس الثالث عشر للجمهورية، لكنه الرئيس الأول الذي يكسر التقاليد (تجربة بشير الجميل لم تكتمل)، فيسبق الترحيب الشعبي، كل ترحيب رسمي وسياسي، من الداخل والخارج. هتف باسم ميشال عون عشرات آلاف اللبنانيين. بدا «التيار الوطني الحر» على صورته الأولى، وليس على طريقة بعض الخطاب الشوفيني العنصري بل الطائفي الذي صار يغرقه به بعض قيادييه في السنوات الأخيرة بعكس نشأته المدنية العلمانية. تيار فيه من كل الملل اللبنانية، برغم أرجحية الكتلة المسيحية. هذه الفرحة، لم يكن بمقدور أحد أن يتجاوزها، وبالتالي لا بد أن يحترمها وهي تضع رئيس الجمهورية أمام مسؤولية مضاعفة، لجهة تزخيم انطلاقة العهد الجديد وأن يلامس قضايا الناس الاجتماعية والمعيشية ومطالبهم المتواضعة جداً.
هذا الترحيب الشعبي لا يحجب حقيقة ثانية، هي أنّ شريحة كبيرة من اللبنانيين، وأيضاً من كل الطوائف والمناطق، بدت متهيبة أو خائفة أو لا مبالية، إزاء سيد العهد الجديد. شريحة تعتريها مشاعر متناقضة. لا تريد أن ترى الحاضر والمستقبل إلا بعين الماضي. هذه الاستعادة تجعلها تخشى من تكرار «حروب» خيضت سابقاً بالمدافع، وربما تخاض غداً بالسياسة والمفردات وبممارسات كيدية يمقتها اللبنانيون. هنا تقع المسؤولية أيضاً على الرئيس الجديد أن يطمئن هذه الشريحة، وأن يقدم نفسه رئيساً لكل اللبنانيين لا لفئة دون أخرى.
ولعل ميشال عون قد نجح في عدم تكبير حجر خطاب القسم الدستوري. أصلاً كان واضحاً أنه كان يرغب بأن يكتفي بالقسم فقط، لكنه أضاف إليه لزوم تثبيت تفاهمه مع سعد الحريري، وخصوصاً في قضايا سياسية، سيتكرر مضمونها إلى حد كبير في البيان الوزاري لحكومة العهد الأولى. لذلك، تعمّد طمأنة «الخائفين» على اتفاق «الطائف»، في لبنان والخارج، بتأكيد حرصه على «ضرورة تنفيذ وثيقة الوفاق الوطني»، بكاملها من دون انتقائية أو استنسابية»، واستخدم تعبيراً قاله سعد الحريري في خطاب تبني ترشيحه بفتحه الباب أمام تطوير الطائف من خلال توافق وإجماع وطني.
هكذا، بدا أول المتمردين على الطائف.. وأول ضحاياه، في طليعة حماته اليوم، فور وصوله إلى الموقع الرسمي الأول في الجمهورية الثانية، لكأن «فخامة الرئيس» يريد أن يعترف بأن النظام في لبنان، مهما تم تجميله أو تعديله، يبقَ بمضمونه الطائفي التحاصصي، أقوى من كل قوى التغيير والإصلاح، وهذه هي حصيلة الكثير من التجارب منذ الاستقلال حتى يومنا هذا.
وعلى أهمية تشديده على «اعتماد قانون انتخابي يؤمن صحّة التمثيل»، كانت لافتة للانتباه دعوة عون «للابتعاد عن الصراعات الخارجية، مع اعتماد سياسة خارجية مستقلة تقوم على مصلحة لبنان العليا واحترام القانون الدولي»، مقابل تأكيده أنه «أما في الصراع مع إسرائيل، فإننا لن نألو جهداً ولن نوفر مقاومةً، في سبيل تحرير ما تبقّى من أراضٍ لبنانية محتلّة، وحماية وطننا من عدوٍّ لما يزل يطمع بأرضنا ومياهنا وثرواتنا الطبيعية».
وإذا كان الرئيس نبيه بري، قد نجح، أمس، في إدارة جلسة الانتخاب، برغم ما اعتراها من «فاولات ديموقراطية»، فإن نجاحه الأكبر، تمثل في قدرته وحليفه سليمان فرنجية على توسيع هامش الأوراق البيضاء، حيث أظهرت نتائج الجلسة الرئاسية، وبالملموس، قدرة المعترضين على صبّ أصواتهم في اتجاه واحد، بل تمكنهم من تحقيق اختراق في «كتلة المستقبل» والنواب المستقلين، فارتفعت أرقام الأوراق البيضاء الى 36، وأظهرت عدم قدرة سعد الحريري على «المونة» على أكثر من عشرة نواب من كتلته الثلاثينية.
وبرغم ما شهدته مواقع التواصل الاجتماعي من انتقادات للنواب ولكل مجريات الجلسة الانتخابية، يمكن القول إن انتخاب الرئيس الثالث عشر للجمهورية، كرس صورة حضارية للديموقراطية اللبنانية، برغم ما يعتريها من «تشوهات عضوية»، إذ إن بعض البلدان العربية التي شهدت «فصولاً ربيعية»، ها هي تجنح نحو الديكتاتورية، فيما تمكن نواب لبنان من انتخاب رئيس بأكثرية متحركة، في مواجهة معترضين، قرروا أن ينسجموا مع أنفسهم لا مع «تعليمة» درجت العادة أن تأتي اليهم كما تأتي لمن تصبّ أصواتهم لمصلحة الرئيس.. وهذه حال كل الانتخابات الرئاسية منذ الاستقلال حتى الآن.
ويسجل للرئيس بري أنه تمكن من «الثأر» لكرامته ولكرامة المجلس النيابي عندما رحّب بـ «فخامة الرئيس تحت قبة البرلمان الذي أنت أحد أركان شرعيته الدستورية»، في إشارة مبطنة إلى أن «الجنرال» انتخب رئيساً بأصوات مجلس نيابي كان يردد دائماً أنه «غير دستوري».
وعلى صورة الترحيب السياسي الجامع بانتخاب الرئيس، وسط مزاحمة «قواتية» واضحة لمصادرة «الفرحة» في الشارع المسيحي بعنوان «الشراكة» و «أم الصبي»، كان لافتاً للانتباه أن أول اتصال تلقاه عون بعد وصوله إلى القصر الجمهوري، كان من الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله الذي هنأه بانتخابه رئيساً للجمهورية، متمنياً له التوفيق. ورد عون شاكراً للسيد نصرالله تهنئته، معتبراً أن الفرحة مشتركة.
ومن الخارج، تلقى الرئيس ميشال عون اتصالات تهنئة، أبرزها من الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند والرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني والرئيس بشار الأسد والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وأمير قطر، كما صدرت مواقف غربية وعربية مرحّبة ..