لا شك في أن انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية اليوم إنجاز يجب أن يرحّب به اللبنانيون رغم اختلاف مواقفهم منه وعواطفهم حياله وتقويمهم لسياساته وكفاءاته. فانتخابه ينهي شغوراً رئاسياً بدأ في 2014، ويعيد الحياة الى الرئاسة الأولى، ويعيد شيئاً من التوازن بين المؤسسات الدستورية ورئاساتها، ويستعيد الميثاقية رغم الاختلاف الواضح على مضمونها وأهدافها. وانتخابه يسمح بتأليف حكومة طبيعية أعضاؤها وزراء لا رؤساء جمهورية، ويفسح في المجال أمام معالجتها المشاكل اليومية للناس فتريحهم إذا كان يستحيل عليها معالجة القضايا السياسية الأساسية الداخلية والأخرى المرتبطة بالخارج، وتمكنهم من انتظار الحلول الاقليمية التي من دونها لا حلول نهائية للبنان وفي اجواء استقرار هشّ حسدنا الكثيرون عليه منذ اشتعال المنطقة بعد "الربيع العربي". وانتخابه أخيراً يفتح مجلس النواب لممارسة التشريع والرقابة والمحاسبة وهذه مهماته الأساسية، ولاجراء انتخابات نيابية وفقاً لقانون جديد عادل يؤمّن صحة التمثيل، يأمل اللبنانيون في أن تجدد نتائجها الطبقة السياسية المسؤولة ومن زمان عن كثير من مآسيهم ومحنهم والحروب. علماً أن هذا الأمل يبقى كأمل إبليس في الجنة.
ولا شك في أن إيفاد المملكة العربية السعودية وزيرها للشؤون الخليجية ثامر السبهان الى لبنان مهم بعد اتجاهها الى التخلّي عن لبنان، وهو أمر لم تفعله في تاريخها معه، منذ إلغائها هبة الـ3 مليارات دولار أميركي التي قدّمتها لتسليح جيش لبنان جرّاء ذهاب وزير خارجيته جبران باسيل، صهر الذي سيصبح رئيساً اليوم ورئيس "تياره الوطني الحر"، بعيداً في تأييد مواقف "حزب الله" وسياسات حليفته إيران في المحافل العربية والدولية. وذلك في ذاته استمرار للصراع لأن المنطقة لا تعيش صراعاً بل حرباً بالواسطة بين السعودية وإيران. طبعاً عُرفت السعودية بالتحفّظ دائماً وبالسعي لحلّ مشكلاتها مع أخصامها وحتّى مع أعدائها بالوسائل الديبلوماسية. لكن احتدام الصراع المُشار إليه واشتراك القسم الوازن من الدولة اللبنانية فيه والقسم الأكثر وزناً على الصعيد الشعبي وخصوصاً في الشارعين المسيحي والشيعي، وعدم نجاح القسم الشعبي اللبناني الآخر أي المؤيّد لها في الدفاع عنها وعن نفسه في وقت واحد، لقصور عند قادته وعند حليفه الاقليمي، ذلك كله دفع المسؤولين في الرياض الى ممارسة التخلّي عن لبنان وعن الذين تعتبرهم مسؤولين عما أصابها ويصيبها في صورة عملية، والى إبلاغ أصدقاء لها فيه به، ولكن من دون جعله موقفاً رسمياً ثابتاً.
طبعاً تُظهر زيارة الوزير السبهان عدم تخلّي بلاده عن لبنان. لكنها لا تشير الى وجود خطة تفصيلية شاملة عندها لترجمة هذا الموقف في صورة عملية. وتشير جرّاء اللقاءات الكثيرة التي أجراها الى طابع استطلاعي لها يختلف عن طابع الدعم والمباركة للرئيس سعد الحريري ولخياره تأييد ترشيح العماد عون، حليف حزب الله وإيران والأسد، لرئاسة الجمهورية الذي حاول الكثيرون إعطاءها إياه. ويعتقد البعض أن بعض المسؤولين في الرياض بدأ يتساءل إذا كان توقيتها صائباً أو خطأ. علماً أن الهدف منها أساساً هو إعلام أصحاب العصر الجديد في لبنان، أي الإيراني، أنهم لن يتخلوا عن لبنان وسيبقون فيه ضمن الحدود المتاحة طبعاً ريثما تتبدل ظروف وتستجد تطورات محلية وإقليمية ودولية. إلا إذا حاول هؤلاء طردهم منه أو نجحوا في ذلك، كما نجح حليفهم الرئيس الراحل حافظ الأسد، بعد تحويله قوة الردع العربية التي كان فيها سعوديون ويمنيون وغيرهم سورية، وسيطر بواسطتها على لبنان وأدار الحروب فيه حتى انتهائها عام 1990، كما أدار السلام بعد ذلك.
في اختصار تفيد المعلومات أن السبهان لن يحضر الانتخاب وأن الخيار الرئاسي للمملكة ليس عون. وقد سمع ذلك مسؤول حكومي كبير من أرفع مسؤول سعودي. واطلع الرئيس الحريري على ذلك. كما سمعه آخرون من مسؤولين أقل مرتبة. لكن هؤلاء سمعوا أيضاً من المملكة عندما قدّرت خطأ التخلّي عن لبنان حديثاً عن أن الانتخاب شأن لبناني لا تتدخل فيه وأن على النواب أن يتحملوا مسؤولياتهم. وتسبّب ذلك بإرباك السامعين وهم الأقرب الى الرياض، وبتناقضهم في الأيام الأخيرة بين مقتنع بأنها تبارك الخيار العوني للحريري وبين مقتنع بأنها لا تباركه. لكن السؤال الذي يطرح هنا هو: من يتحمّل القسم الأكبر من مسؤولية التحوّل السعودي في لبنان؟ اللبنانيون بكل شعوبهم؟ أو بنصفها؟ أو المملكة؟