شهدت الجمهورية اللبنانية بعد الاستقلال 10 عهود رئاسية وعهدين لم تكتب لأصحابهما الحياة. بعض العهود رفع لبنان الى مصاف الدول الراقية، وبعضها الآخر دمّره وقسّمه وجعله تحت وصاية الاحتلال السوري. وتميّزت عهود اخرى بالاصلاح والبحبوحة، وبعضها الآخر بالازمات السياسية والحروب التي كان سببها الاساسي الوجود الفلسطيني في لبنان. والرئاسات التي جاءت بعد الاستقلال مباشرة أسّست الدولة ووضعت هيكليتها التي ما زالت تُعتمد حتى ايامنا. اما العهود التي جاءت بعد اتفاق الطائف، فلم تتمكن من تحقيق اي اصلاحات ادارية بسبب الفساد والاحتلال السوري وعدم القدرة على تطبيق مبدأ المحاسبة. وقد يكون انتخاب العماد ميشال عون من صنع لبنان بنسبة كبيرة وسط انشغال القوى العالمية والاقليمية بأزماتها، اما مميزات عهده الرئاسي فسنتعرف عليها في المستقبل، ولكننا الآن سنعرض مميزات العهود الرئاسية السابقة.

بشارة الخوري... عهد الاستقلال
الرئيس الاول لجمهورية الاستقلال، هو الرئيس بشارة الخوري الذي انتخب في 21 أيلول من العام 1943 بغالبية 44 صوتاً من اصل 55، وترأس حكومته الرئيس رياض الصلح الذي تحول بيانه الى "ميثاق وطني" غير مكتوب. وفي عهده أُلغيت البنود التي تشير الى الانتداب في الدستور، وأدى نشرها في الجريدة الرسمية الى اصدار المفوض السامي قرارًا بإبطال مفعول تعديل الدستور، واعتقال الخوري والصلح والوزراء كميل شمعون وسليم تقلا وعادل عسيران، وبعض النواب وسجنهم في قلعة راشيا. كما حلّ المجلس النيابي، وكلّف اميل إده رئاسة الدولة والحكومة معا. وأدى الاعتقال الى ثورة شعبية بوجه الانتداب الفرنسي للمطالبة بالاستقلال والافراج عن المعتقلين، وحصل ذلك في 21 تشرين الثاني 1943، واعترفت فرنسا باستقلال لبنان. وتميّز عهده، اضافة الى الاستقلال، بتوطيد علاقاته مع بعض الدول العربية. كما تأسس في عهده الجيش اللبناني بقيادة اللواء فؤاد شهاب، وبدأت الدولة بتنظيم شؤون المواطنين وتحقيق نهضة عمرانية في البلاد. وجدّد لنفسه ولاية جديدة، لم تدم طويلا فأُسقط في الشارع في 18 ايلول 1952.

كميل شمعون... عهد البحبوحة
الرئيس الثاني كان كميل شمعون الذي انتخب في 23 ايلول من العام 1952 بغالبية 74 صوتا من اصل 77 نائبا. وتميّز عهده بالرخاء الاقتصادي والبحبوحة والاستقرار الامني، وحقّق اصلاحات ادارية عدة، وحرر القضاء من الضغوط السياسية، ودعم حرية التعبير والاعلام اللبناني. الا ان عهده أُصيب بانتكاسة بعد سقوط معظم معارضيه المدعومين من الرئيس المصري جمال عبد الناصر في الانتخابات العامة عام 1957، وواجهته تحركات شعبية ضد علاقته مع واشنطن تخوفا من التمديد لنفسه. لكن معارضيه فشلوا في إسقاطه بسبب تماسك حلفائه وفي طليعتهم حزب الكتائب ورئيس الحكومة سامي الصلح، وظل في منصبه حتى نهاية عهده.

فؤاد شهاب... العهد الإصلاحي
ولعل اللواء فؤاد شهاب الذي انتخب في العام 1958 يعد المؤسس الفعلي لمؤسسات الدولة اللبنانية وهيكليتها. بعد انتخابه اسند رئاسة الحكومة الى الرئيس رشيد كرامي. وتميّز عهده بتنفيذ مشاريع زراعية وانارة الطرق وتعبيدها، وشهد عهده ايضا اصلاحات ادارية مهمة، وانشاء مصرف لبنان. وبرز في عهده حدثان: الاول تمثل بفوز المعارضة بغالبية مقاعد مجلس النواب ما دفعه الى الاستقالة من منصبه، لكن المطالبة الشعبية منعته من ذلك. والحدث الثاني، كان إفشال الجيش واللبنانيين عموما محاولة الانقلاب التي نظمها الحزب القومي السوري الاجتماعي. واشتهر عهده ايضا بالمكتب الثاني، الذي تدخل في الحياة السياسية ومارس ضغوطا على الحريات العامة. نجح شهاب في سياسته المتوازنة بين الافرقاء اللبنانيين، وبين المعسكر الشرقي السوفياتي والمعسكر الغربي الاميركي، فوصف نهج حكمه بالشهابية.

شارل حلو... عهد شرعنة العمل الفدائي
مع اصرار الرئيس شهاب على عدم التمديد لنفسه، انتخب شارل حلو رئيسا للجمهورية في 18 آب من العام 1964 بأكثرية 92 صوتا من اصل 99، واعتبر عهده تتمة للعهد الشهابي الذي شكل دعم مؤسّسه الرئيس شهاب الرافعة الاساسية لوصوله الى سدة الرئاسة. سعى في عهده الى مواصلة العمل الاصلاحي الذي بدأه شهاب، لكنه فشل. وأُصيب عهده بانتكاسات عدة ابرزها، ازمة افلاس بنك "انترا" في العام 1966 التي وجهت ضربة قوية الى الاقتصاد اللبناني، والصدامات بين الجيش والمجموعات الفلسطينية المسلحة بعد حرب 1967 العربية - الاسرائيلية. وخلال عهده وضع اتفاق القاهرة في العام 1969 الذي شرعن السلاح الفلسطيني ضد اسرائيل على الاراضي اللبنانية، بعد تدخل الرئيس عبد الناصر لوضع حد للصدامات بين الطرفين اللبناني والفلسطيني.

سليمان فرنجية... عهد شرارة الحرب
الصوت الواحد الذي عكس شدّة المنافسة على المنصب الرئاسي، جاء بسليمان فرنجية رئيسا للجمهورية في 23 ايلول من عام 1970 بعد فوزه على منافسه حاكم مصرف لبنان الياس سركيس. تخلل عهده عدد كبير من الازمات. البداية كانت مع تعزيز المجموعات الفلسطينية وجودها في لبنان بعد طردها من الاردن، الامر الذي ادى الى اتفاقية "ملكارت" المكملة لاتفاقية القاهرة والهادفة الى تحديد اماكن تواجد المسلحين الفلسطينيين. وفي عهده، اندلعت شرارة الحرب اللبنانية بسبب التعديات الفلسطينية على الشعب اللبناني، وحاولت "الحركة الوطنية" المعارضة له إسقاطه لكنها لم تنجح في ذلك. أنشأ ميليشيا "المردة" وترأسها، وقاتل الفلسطينيين. تميز بميوله العربية وبصداقاته الشخصية مع عائلة الرئيس السوري حافظ الاسد.

الياس سركيس...عهد ضرب الوجود الفلسطيني
في ترشحه الثاني، انتخب الياس سركيس رئيسا للجمهورية في 1976، وحصد 66 صوتا من اصل 99. شهد عهده حربا ضروسا بين ميليشيات الاطراف اللبنانية والمجموعات الفلسطينية والجيوش الاجنبية التي انخرطت في الحرب اللبنانية. عمل على ادارة الازمة التي تخبط بها عهده ساعيا الى انجاح عدد من المبادرات لتسوية النزاع المسلح، لكنه فشل. لم يغادر القصر الجمهوري حتى بعد وصول الجيش الاسرائيلي الى بيروت خلال الاجتياح الذي حصل وأدّى في نهاية المطاف الى إخراج المسلحين الفلسطينيين من لبنان في شهري آب وايلول 1982.

بشير الجميّل... عهد استُشهد في المهد
بعد خوضه معارك تحرير لبنان من الوجود الفلسطيني المسلّح، انتخب بشير الجميّل رئيسا للجمهورية في 23 آب 1982، لكنه اغتيل في 14 ايلول قبل ان يتسلم الحكم. واعتبر اصغر رئيس جمهورية شهده لبنان منذ الاستقلال، واستبشر معظم اللبنانيين من معظم الطوائف خيرا بوصوله الى الرئاسة، بسبب العزم الذي أظهره لتحقيق العدالة الاجتماعية وتحقيق المشاريع الاقتصادية وإعادة إعمار لبنان. رفع لواء استعادة استقلال لبنان ومغادرة الجيوش المحتلة تحت شعار "10452 كلم مربع".

امين الجميّل... عهد المواجهات
تولى الرئاسة بعد اغتيال شقيقه بشير، وانتخب امين الجميل رئيسا للجمهورية. شكل عهده المنصة الاساسية لمواجهات كبيرة عقب الاحتلال الاسرائيلي للبنان. ارتبط عهده بـ"حرب الجبل" بين "القوات اللبنانية" من جهة، والحزب التقدمي الاشتراكي والمنظمات الفلسطينية من جهة ثانية، والتي خسرها المسيحيون بعد تعذر ارسال الجيش الى الجبل لضبط الوضع. كما شهد عهده تفجير مقر "المارينز" وتفجير مقر المظليين الفرنسيين في بيروت في أيلول 1983. وسلم الحكم الى حكومة عسكرية بقيادة العماد ميشال عون مهمتها انتخاب رئيس للجمهورية.

 

رينه معوض... عهد الطائف
انضم رينه معوض الى باكورة القيادات اللبنانية التي اغتيلت بسبب مواقفها الوطنية، بعدما انتخب رئيسا للجمهورية في 5 تشرين الاول من العام 1989. هو الرئيس الاول لجمهورية اتفاق الطائف، وكلف الرئيس سليم الحص تشكيل الحكومة الاولى. حاول التفاوض مع رئيس الحكومة الانتقالية العماد ميشال عون لانهاء الازمة اللبنانية، الا انه لم يتمكن من قطف ثمار ذلك، فاغتيل صباح عيد الاستقلال في 22 تشرين الثاني من العام نفسه، ليكون الرئيس الثاني بعد بشير الجميل يُغتال بعد انتخابه بفترة قصيرة.

الياس الهراوي... عهد إقصاء المسيحيين
لم تكد دماء الرئيس معوض تجفّ، حتى انتخب الياس الهراوي رئيسا للجمهورية في 24 تشرين الثاني من العام 1989. اعتمد على الجيش السوري لعزل رئيس الحكومة الانتقالية العماد ميشال عون، ونجح بذلك في 13 تشرين الاول 1990. كما شهد عهده ايضا إقصاء قائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع بعد سجنه في ملفات قضائية شملها العفو العام الذي اصدره بعد انتهاء الحرب اللبنانية. تميّز عهده بالتدخل السوري المباشر في ادارة الوضع اللبناني على جميع المستويات خصوصا بعد توقيع معاهدة "الاخوة والتعاون والتنسيق" بين البلدين. اشرف على اول انتخابات بعد انتهاء الحرب رغم مقاطعة المسيحيين لها. وتميز عهده بحركة الاعمار التي أشرف عليها رئيس حكومته رفيق الحريري. كما تميزت فتره حكمه الذي مدد 3 سنوات، بزيارة تاريخية للبابا يوحنا بولس الثاني الذي وقّع في بيروت "الارشاد الرسولي من اجل لبنان".

اميل لحود... عهد الفراغ الثاني
بعد نجاح التمديد للرئيس الهراوي الذي عمل عليه الرئيس الراحل رفيق الحريري لمنع وصول العماد اميل لحود الى الرئاسة عام 1996، انتخب لحود رئيسا للجمهورية في 15 تشرين الاول 1998، بغالبية مطلقة في مجلس النواب بعد تعديل الدستور واضافة فقرة تسمح بانتخاب كبار الموظفين لرئاسة الجمهورية وبصورة استثنائية. في بداية عهده قتل 4 قضاة داخل مبنى قصر العدل في صيدا، ولاحقًا انسحب الجيش الاسرائيلي من الجنوب والبقاع عام 2000. شهد عهده خلافات حادة بينه وبين الرئيس رفيق الحريري الذي اغتيل في 14 شباط 2005 خلال الولاية الممددة للحود ووجهت المعارضة اصابع الاتهام الاولى الى لحود والنظام السوري. وفي عهده، أدّت الضغوط الدولية التي مورست بعد اغتيال الحريري وتظاهرة 14 آذار الى انسحاب الجيش السوري في 26 نيسان 2005 من لبنان بعد اعوام من الاحتلال السوري. وعلى رغم محاولة المعارضة إسقاطه في الشارع الا انه ظل في منصبه حتى نهاية عهده.

ميشال سليمان... اعلان بعبدا والانفجار السوري
بعد أحداث 7 ايار 2008 التي قام بها "حزب الله" ومفاوضات الدوحة بين القيادات اللبنانية، انتخب العماد ميشال سليمان رئيسًا للجمهورية في 25 أيار 2008 بغالبية 118 صوتا من اصل 128. شهد عهده انفجار تداعيات التورط في الحرب السورية وابرز ما ميزه اعلان بعبدا لتحييد لبنان عن هذه الحرب ولكنه لم ينفذ . لم يسلم الرئاسة الى رئيس منتخب بسبب الخلافات السياسية، التي أدخلت البلاد في شغور رئاسي طويل دام سنتين ونصف سنة تقريبا.


واليوم نحن امام عهد جديد لرئاسة الجمهورية برئاسة العماد عون الذي جاء بعد عامين ونصف عام تقريبا من الشغور الرئاسي والتعطيل المتواصل للحياة السياسية. والانظار كلها موجهة نحو القصر الرئاسي لمعرفة ما قد يتمخض عن هذا العهد.