بغداد ودمشق، العاصمتان الأكثر ارتياحاً لبدء معركة الموصل، وبدء العد التنازلي لإسقاط رمز «دولة الخلافة» التكفيرية التي أعلنها ابو بكر البغدادي قبل أكثر من عامين. ما من عاصمة أخرى، إقليميا أو دوليا، تشاركهما الغبطة ذاتها، بل إن مصالح العديد منها ربما تلاقت ـ وما زالت تتلاقى - على الرهان الأمثل: إضعاف كل من بغداد ودمشق.
ومع ذلك، فإن المفارقة هي أن المشهد الدائر حول الموصل، أو «ام الربيعين» كما يسميها بعض أهلها، يوحي بأنها حرب عالمية مصغرة، بالنظر الى أن أكثر من 60 دولة تشارك فيها، ولو شكليا، فيما أن الوقائع تشير بوضوح الى أن الطريق نحو دحر «داعش» دفع ثمنه آلاف المدنيين العراقيين، وآلاف المقاتلين من قوات الجيش العراقي و «الحشد الشعبي» وقوات العشائر، ناهيك عن ضحايا المجازر من إيزيديين وسنة وشيعة وتركمان وكرد وغيرهم.
كما أن المفارقة الثانية التي يجب التوقف عندها طويلا، هي أن غالبية القوى العراقية ترى في تحرير الموصل معركة وطنية جامعة يحتاج إليها العراقيون أملاً الخروج من ظلام ابو بكر البغدادي، فيما البعض من «الأشقاء»، لا يراها إلا من منظور طائفي أو مذهبي، فيما هم أنفسهم، لزموا صمتاً طويلاً منذ اعتلى البغدادي المحراب في مسجد الموصل في ذلك اليوم الأسود من حزيران عام 2014، كأول خليفة لـ «الدولة الإسلامية».
لكنها بالتأكيد ليست الساعات الأخيرة لتنظيم «داعش»، ولا الأيام الأخيرة. الموصل نفسها يتطلب تحريرها الكثير من الدم والوقت. التقديرات الأولية تتحدث عن أسابيع، اللهم إلا إذا استكملت مجموعات «داعش» انكفاءها باكراً نحو الحدود السورية، كما تشير بعض المعطيات الميدانية، في تكرار لما جرى بعد تحرير الفلوجة، والأنباء التي تؤكد أن قيادات كبرى في عصابات البغدادي، انتقلت فعلياً عبر الحدود الممتدة لمئات الكيلومترات، نحو الداخل السوري.
ونهاية المعركة أيضاً ليست وشيكة لأن هناك نواحيَ عراقية عديدة ما زالت في قبضة البغدادي، على الرغم من آلاف الغارات الجوية التي أعلنها «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة، في العراق خلال عامين. كما أن التحدي الأكبر بعد استعادة الموصل، والحويجة مثلاً، سيكون اكتشاف ما إذا كانت الحكومة العراقية قد تعلمت من التجربة المريرة عندما تركت حدودها سائبة قبل أكثر من عامين، ما سمح بتلاقي «دواعش الداخل» مع «دواعش الخارج» الذين أتوا من سوريا، لاجتياح أكثر من ثلث الأراضي العراقية وصولاً إلى مشارف العاصمة بغداد نفسها، ما فاقم من الجروح العراقية، وألقى بالبلاد في قعر الكوارث التي تتالت عليها منذ جنون صدام حسين والغزو الأميركي وعجز طبقة الحكومات المتتالية عن معالجة أزمات العراقيين ومآسيهم ومخاطر تفكك وحدة أحد أكبر البلاد العربية وأكثرها قوة على امتداد التاريخ.
«قادمون يا نينوى»، سمى رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، عمليات تحرير الموصل ومحيطها، وهي على ما يبدو في يومها الأول سارت بأفضل مما كان مخططاً لها. الصحافي العراقي منتظر العمري قال لـ «السفير» إن المعركة «تجاوزت المتوقع في بعض المحاور من خلال سرعة التحرير وكذلك استخدام القوات الأمنية أساليب جديدة ومفاجئة جعلتها تتقدم بسرعة وتهزم عناصر داعش في مناطق محيط الموصل كما في بعشيقة».
وقال العمري إن «معارك الـ 12 ساعة الأولى حققت الشيء الكبير وخاصة في المحاور التي تتولاها قوات الجيش العراقي وجهاز مكافحة الإرهاب والتي تعدّ من أصعب المحاور والتي تحتاج إلى قوة خاصة لتطهيرها على عكس المحاور التي تمسكها قوات البيشمركة وتشهد أخطاء واسعة لطائرات التحالف الدولي»، مضيفاً أن «ثلاث مناطق واسعة وأكثر من 15 قرية وبمساحة إجمالية تجاوزت 84 كلم مربعاً، حُررت حتى الآن».
وأشار العمري الى أن الفترة الزمنية المتوقعة للمعركة هي أسابيع، لكن «التحالف الدولي» يرجح استمرار المعركة، مضيفاً أن القوات الأمنية تبعد حالياً عن مركز المدينة 20 كلم وفي بعض المحاور أقل من ذلك. وأشار الى أنه بعد معركة الموصل توجد مناطق عديدة ما زال يسيطر عليها التنظيم أو توجد له خلايا فيها، مثل جبال حمرين وراوة وعانة والقائم والأهم من ذلك بيجي.
الإعلامي العراقي والمحلل السياسي ليث العذاري يقول لـ «السفير» إن التحدي الأكبر أمام العراق بعد معركة الموصل، هو «لملمة الأوراق الداخلية، من الملف الأمني وعودة النازحين وتحقيق الاستقرار»، مذكراً بأن تجربة الغزو الداعشي في عام 2014، كشفت أن ضعف العراق يتمثل في «ضعف موقفه السياسي وتفرق مكوناته السياسية المختلفة... هناك عبرة ودروس من تجربة العامين المريرين بأنه يتحتم علينا إنشاء نسيج موحد للعراقيين».
الحدود السورية
العذاري، وهو أيضاً عضو «المكتب السياسي للمقاومة الإسلامية - عصائب أهل الحق»، قال أيضاً إن «أولى أولياتنا الآن هي تأمين الحدود مع سوريا التي من خلالها دخلت المجاميع التكفيرية، وسقوط الموصل ثم صلاح الدين والأنبار كان عبر الحدود السورية».
وقال العذاري إنه «فيما تحدث الأميركيون عن 30 سنة لإلحاق الهزيمة بـ «داعش» في العراق، فإننا نقوم بذلك خلال أقل من ثلاثة أعوام، ومن واجبنا الحفاظ على كل التضحيات التي بذلت والانتصارات التي تحققت، وألا نترك الحدود سائبة مرة أخرى».
ومن جهته، يشير العمري إلى أن «أرتالاً عديدة من داخل الموصل خرجت نحو سوريا».
وأشار الى وجود التنظيم على الشريط الحدودي والمناطق الحدودية من الصحراء بين العراق وسوريا، محذراً من مخطط يتيح تأخير الحسم الى أشهر عديدة باستخدام «داعش» عنصر المفاجأة الذي يجعل القوات العراقية تغير خططها أو تؤخر الحسم في بعض المحاور أو تؤجل إعلان انتهاء المعركة. وبعدما ذكر العمري أن «داعش» منذ معركة الفلوجة التي تحررت قبل أشهر صار ينتقل الى مناطق دير الزور والرقة وينقل بعض عناصره الأجانب وما بقي من قادة الصف الأول، أشار الى أن هذا الانتقال ليس اعتباطياً.
ورأى العمري أن «داعش» يسعى الى تحويل عناصره الى خلايا يقظة وأخرى نائمة في مناطق عراقية أخرى رخوة، وخاصة في محيط بغداد أو ما يسمى حزام بغداد ومناطق جنوبية أخرى.
ورأى العمري أن «التنظيم يسعى الى العمل على إمساك مناطق في الشريط الحدودي معتمداً في ذلك على معرفته بأن القوات العراقية لن تطارده الى العمق السوري، وهو ما يحقق بقاء التنظيم ويعزز قوته في الأراضي السورية من خلال نقل العدة والعديد وكذلك يتحول إلى حاجز بوجه المخطط الذي تتحدث عنه قوى كبرى حول إيران» وهو تأمين تواصل جغرافي بين الأراضي العراقية والأراضي السورية وصولاً الى البحر المتوسط.
وأكد العمري بحسب معطيات الميدان العراقي الحالي أن الممر الذي جرى الحديث عنه كممر آمن لـ «داعش» من الموصل نحو الأراضي السورية مفتوح بعلم من قوات التحالف الدولي»، مشيراً الى أن «التحالف» يركز ضرباته فقط على الشريط الفاصل بين المناطق الكردية والموصل، في محاولة لحماية الأراضي التي يتمركز فيها الكرد والمحاذية لمناطق وجود التنظيم في الموصل.
وذكّر العمري بالأرتال التي خرجت منذ شهور قليلة من الفلوجة الى القائم وبعد ذلك الى الأراضي السورية، التي لم يقصفها «التحالف الدولي» رغم علمه بها بسبب ما يملكه من إمكانات رصد وتتبع بل قصفتها الطائرات العراقية.
تركيا
زار وفد من وزارة الخارجية التركية بغداد لمناقشة التطورات الأخيرة في العراق مع المسؤولين العراقيين، في ظل التصعيد الكلامي في تصريحات المسؤولين الاتراك بحق العراق وحكومته ومكوناته. وترأس الوفد مستشار وزارة الخارجية أوميت يالتشين. وتحدثت مصادر عراقية عن ان الوفد التركي لم يقدم جديدا لتسوية قضية الاحتلال التركي لمنطقة بعشيقة وإصرار أنقرة على التدخل في معركة الموصل، والتهويل من تداعيات تحريرها عراقيا.
وفي هذا السياق، قال رئيس الحكومة التركي رجب طيب أردوغان «ماذا يقولون؟ إن على تركيا ألا تدخل الموصل، لديّ حدود (مع العراق) طولها 350 كيلومتراً، وإنني مهدد من خلال هذه الحدود»، مضيفاً أن «أشقاءنا هناك وأقرباءنا هناك، ومن غير الوارد أن نكون خارج العملية»، مشدداً على أن تركيا لا تتحمل مسؤولية النتائج الناجمة عن أي عملية ليست مشاركة فيها.
وتابع أردوغان «لا ينبغي لأحد أن ينتظر منا الخروج من بعشيقة، نحن في بعشيقة وقمنا حتى اليوم بجميع أنواع العمليات ضد داعش هناك وسنستمر في القيام بذلك».
لكن العذاري قال في تصريحاته لـ «السفير» إن انقرة التي كانت تهدد وتتوعد، أرسلت الان وفدا الى العراق للتباحث. وأضاف أن الأتراك بعد استبعادهم من عملية تحرير الموصل، يحاولون الالتفاف على ذلك، مؤكدا أن انتشار القوات العراقية وانزال قوات عراقية خاصة، جعلا القوات التركية في بعشيقة متقوقعة في أماكنها.
ورأى العذاري أن الاهداف التركية من التصعيد حول الموصل يمكن تلخيصها كالتالي:
1- أكل جزء من كعكة الانتصار الحالي.
2- ضرب المعارضة التركية المتمركزة في العراق.
3- حماية المصالح الاقتصادية من بضائع ونفط كانت تهرب من شمال العراق الى تركيا.
وخلص العذاري الى القول ردا على سؤال عما اذا كان بإمكان تركيا التشويش على الإنجازات العسكرية العراقية الحالية، إن مثل هذه المحاولات جرت من قبل من جانب تركيا ودول إقليمية اخرى، مثلما جرى أيام معارك تحرير الفلوجة وصلاح الدين، بإثارة حرب نفسية ضد القوات العراقية، لكن العراقيين ظهروا اكبر من محاولات التهويل هذه.
وأوضح ان كل معركة كان العراق يستعد لخوضها كانوا يتحدثون عن حساسيتها المذهبية، مثلما فعل اردوغان ووزير الخارجية السعودي عادل الجبير مرارا في الأيام الماضية. وأضاف ان الموصل بمكوناتها المذهبية والعرقية المتنوعة تختلف عن الفلوجة وتكريت على سبيل المثال. وأشار الى انه على الرغم من المجازر التي ارتكبت بحق المدنيين وقوات الامن كما في معسكر سبايكر، فإن تحرير الجيش العراقي للمنطقة لاحقا، لم ترافقه عمليات تهجير ولا تنكيل بأهل تلك المناطق، مثلما كانوا يروجون. وخلص الى القول إن المشكلة هي في «دواعش السياسة» الذين يستغلون نزعات التوتر هذه تحت ذرائع إنسانية الطابع، لتحقيق مكاسب سياسية وشعبية داخلية على حساب العراقيين ودمائهم.