لم يتّفق المحلّلون السياسيّون وغير السياسيّين على تقويم واحد لشخصيّة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فعددٌ منهم وبينهم أميركيّون اعتبروه تكتيكيّاً بارعاً ومُغامراً صلباً وعنيداً وغير استراتيجي في آن واحد. وعددٌ آخر منهم وبينهم أميركيّون أيضاً اعتبروه استراتيجيّاً ومخطّطاً مهمّاً أولاً عندما أدرك طبيعة شعب بلاده وهمومه وهواجسه ووظّفها للاستمرار في حكمه إيّاه مباشرة ثم بالوكالة فمباشرة مرّة ثانية، وربّما إلى الأبد كما كان يؤمن النظام الشيوعي السوفياتي الذي ربّاه وعلّمه ودرّبه وأمدّه بالخبرة اللازمة في استغلال ضعف المُنافسين وزلّاتهم سواء داخل بلاده أو خارجها. وثانياً عندما استخدم "الربيع العربي" فور شروق شمسه أواخر الـ 2010 ثم بعد تحوّله شتاءً عاصفاً ومُدمّراً لإعادة روسيا لاعباً دوليّاً بعدما كانت شريكة في الزعامة الثنائيّة للعالم. ونجح في ذلك باستغلال ثورة سوريا وقمع نظام الأسد ثم تحوّلها حرباً أهليّة – طائفيّة – مذهبيّة – إرهابيّة بفضل لامبالاة إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما ورفضه التورّط العسكري المباشر في المنطقة حتى قبل ولادة "داعش" وتأسيسه دولة الخلافة الإسلاميّة، وقلّة كفاية وزير خارجيّته جون كيري بالمُقارنة مع نظيره الروسي سيرغي لافروف. وكذلك بفضل تمسّك الأسد بالبقاء وإن على أنقاض مدن بلاده وقُراها وعلى جثث أبنائها. كما بفضل تمسّك إيران الإسلاميّة بمشروعها الإقليمي المعروف والذي تُشكّل روسيا الأسد والعراق الشيعي ولبنان "حزب الله" حجر الزاوية فيه. وثالثاً وأخيراً عندما صار نظريّاً أو ظاهراً اللاعب الأساسي في الشرق الأوسط صاحب المبادرات العسكريّة والسياسيّة حين صارت الزعيمة الآحادية للعالم منذ انهيار روسيا السوفياتيّة قبل أكثر من عقدين الولايات المتحدة صاحبة ردود الفعل التي غالباً ما كانت غير متناسبة حجماً وفعلاً مع المبادرات.
طبعاً لا يتّفق المحلّلون الأوّلون مع تقويم زملائهم المؤمنين باستراتيجيّة بوتين وتخطيطه ونجاحاته. فهم لا يُقلّلون من أهميّة ما حقّقه ولا سيّما منذ عام 2010، لكنّهم يعتبرونه إنجازات غير نهائيّة انطلاقاً من نظريّة يًؤمن بها الكثيرون في العالم وهي أن أميركا قد تخسر معركة أو معارك لكنّها لا تخسر حرباً في ظل ميزان القوى العالمي الحالي، وذلك رغم تعثّرها وأخطائها وتمسّكها بمصالحها على حساب قِيَم تؤمن بها أو تقول إنّها تُشكّل الدستور الفعلي لها، ورغم عدم كفاية عدد من زعمائها وأوباما ليس واحداً منهم، ورغم العقبة الديموقراطيّة غير الموجودة في روسيا وعلى طريق بوتين أو غيره، التي تُعرقل مرّات كثيرة حركة الإدارات في واشنطن أو تُعطّلها. فالانتصار الروسي الجزئيّ في سوريا مُستحيل أن يُصبح كاملاً سواء بتسوية سياسيّة لحربها توافق عليها أميركا بل تُشارك فيها لكن الرابحة فيها ستكون روسيا. وهذا أحد أسباب تعثّر أو بالأحرى إخفاق الاتّفاق الأخير بين موسكو وواشنطن على وقف النار والعمليّات العدائيّة. فالثانية ليست مع التنظيمات الإرهابيّة في سوريا. لكنّها تعرف، بسبب أخطاء المسلمين العرب وغير العرب في التعاطي مع "ربيع سوريا"، أن معظم الثوّار صاروا إسلاميّين وإن بدرجات مُتفاوتة في التشدّد، وأنّهم يتقاتلون كثيراً وأيضاً يقاتلون الأسد وإيران وروسيا و"حزب الله" معاً أحياناً كثيرة. وتعرف أيضاً أن التمسّك الروسي بضم المتشدّدين إلى لائحة الأهداف التي يتصدّرها "داعش" يرمي إلى الاستعانة بموافقة أميركا على ضرب الجميع وبمشاركة عسكرها في ذلك فيظهر ضعف المُعتدلين ويستخدم الروس ذلك لتعويم نظام الأسد بعد إصلاحات تجميليّة تبقي له الأمن وأجهزته والجيش والميليشيات، وبذلك يتحقّق انتصار روسي – إيراني – أسدي على أميركا. ولذلك انتفض المُعترضون داخل إدارة أوباما على تساهله أو عدم اهتمامه بسوريا مثل وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية وتوصّلوا إلى إقناع الرئيس، وليس وزير الخارجيّة الذي بقي مصرّاً على الاتصال بلافروف لانقاذ الاتفاق الأخير، بوقف الاتصال مع موسكو في هذا الموضوع. طبعاً سارع الروس بعد أيّام من التأنيب والتوبيخ والتهديد لأميركا إلى التمسّك باستمرار التفاوض. لكن القرار كان اتّخذ، كما اتّخذ معه قرار بإظهار أن قوّة روسيا في سوريا هي ضعف لأن الانتصار من دون أميركا وعلى حسابها صعب أو مستحيل، ولأن الإصرار عليه سيُوقعها في أفغانستان ثانية. كما سيُوقع إيران في فيتنامها الأولى والمنطقة كلّها في حروب تستنزف كبارها والصغار كما بعض الكبار في العالم.
هل هذا التحليل صحيح؟ وهل من مُعطيات جديدة عن هذا الموضوع وَرَدَتْ إلى معنيّين في المنطقة؟