لا يمثل القول إن تنظيم داعش ومنذ ظهوره كان بمثابة أداة لتنفيذ المشروع الإيراني في المنطقة اكتشافاً جديداً. إذ كان التنظيم المتطرف ومنذ نواته الأولى، التي أنشأها أبومصعب الزرقاوي عقب عبوره من أفغانستان إلى العراق مروراً بإيران والتي فيها اختفى لمدة عام كامل، حيث كان في ضيافة الحرس الثوري الإيراني مع كبار القياديين الذين فضلوا الفرار من أفغانستان في أعقاب الغزو الأميركي العام 2001 والبحث عن أرض جديدة للجهاد، يعمل بموازاة المشروع الإيراني للتمدد في المنطقة انطلاقاً من العراق، الذي لطالما شكل حلماً بالنسبة إلى القيادة الإيرانية وصولاً إلى سوريا ومن ثم اليمن.
 
ولا يمكن التغافل عن الهدف المشترك والمعلن لكلا الجهتين، داعش وإيران، وهو شبه الجزيرة العربية. فلم يكن مستغرباً والحالة هذه أن يختار الزرقاوي “السني المتشدد” والكاره للشيعة من خلال خطاباته التي ظهرت لاحقاً عدوّه اللدود إيران لتشكل انطلاقاً لتنظيمه الجديد الذي أعلن قطيعته مع تنظيم القاعدة الأم، وتحول إلى كيان مستقل له أهداف مختلفة، وإن تقاطعت في شكلها العام مع أهداف التنظيم الأم ومشاريعه، ثم لتستمر تلك العلاقة الوثيقة بعد مقتل الزرقاوي ونشوء تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام على يد مجموعة من الضباط السابقين في الجيش العراقي، وبعض المتشددين ممن كانوا نزلاء في السجون الأميركية والعراقية فيما بعد، وقد سهلت الحكومة العراقية التابعة لإيران هروبهم من السجون، ليتحوّلوا خلال أشهر فقط إلى قادة لواحد من أكثر التنظيمات الإرهابية تشدداً وعداء لكل ما هو عربي وسنيّ سواء في العراق أم في سوريا، أم في أي مكان وصلوا إليه.
 
هل داعش تنظيم سني
 
لا يمكن، والحالة هذه، التفكير في أن تنظيم داعش هو تنظيم إسلامي سنيّ متشدد، كما تميل لتسميته بعض مراكز الأبحاث والدراسات، إذ أن المعلومات المؤكدة تشير إلى أن الواجهة الدينية للتنظيم هي نفسها الواجهة الشيعية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، فالدين في كلتا الحالتين ليس سوى وسيلة “للبقاء والتمدد”.
 
مؤخراً كشف الدبلوماسي الإيراني المنشق عن نظام طهران فرزادفرهنكيان معلومات تفيد بأن تنظيم داعش يتم تحريكه من خلال غرفة عمليات حربية في مشهد، شمال شرق إيران، يديرها كبار قادة المخابرات الروسية والإيرانية.
 
 
أبو أيوب وقيادة داعش
 
تتطابق هذه المعلومات مع معلومات سابقة كان أدلى بها دبلوماسي إيراني آخر هو أبوالفضل إسلامي وهو أن إيران استفادت من تنظيم داعش إلى أقصى حدّ، وتمكنت بذريعة هذا التنظيم من تبرير تدخلها في كل من العراق وسوريا، بل إن إيران توفر لتنظيم داعش جزءاً كبيراً من الأسلحة التي يحتاج إليها.
 
دير شبيغل الألمانية تقوم بنشر وثائق مكتوبة بخط يد "العقل المدبر لتنظيم داعش" على ورق تابع لوزارة الدفاع السورية تبرهن وبالدليل القاطع على أن التنظيم يمتلك علاقات جيدة بجهاز المخابرات السوري، وبالتالي بالمخابرات الإيرانية
وكانت مجلة دير شبيغل الألمانية قد نشرت في أبريل من العام 2015 ما قالت إنها وثائق حصلت عليها من مقرّ حجي بكر أحد القادة الكبار في تنظيم داعش الذي قتل في مدينة تل رفعت الواقعة في ريف حلب السورية، وتؤكد تلك الوثائق المكتوبة بخط يد “العقل المدبر للتنظيم” على ورق تابع لوزارة الدفاع السورية وبالدليل القاطع أن التنظيم يمتلك علاقات جيدة بجهاز المخابرات السوري التابع لنظام دمشق، وبالتالي فلا بد أن تكون له علاقة بالمخابرات الإيرانية نظراً للعلاقة الوثيقة أصلاً بين نظامي طهران ودمشق، كما تؤكد تلك الوثائق أن بنية التنظيم وهيكليّته ليست سوى بنية مخابراتية عسكرية، تقوم بالدرجة الأولى على تراتبية عسكرية كان حجي بكر حريصاً على إرسائها لتحقق له الغاية المنشودة من وجود داعش بأسره وهو الاستيلاء على الأراضي وبناء كيان قوي يكون قادراً على الاستمرار.
 
حجي بكر أو العقيد سمير عبد محمد الخليفاوي الضابط السابق بجهاز مخابرات القوات العراقية إبان فترة حكم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، سُجن عامين من 2006 حتى 2008، في سجني “بوكا” و”أبوغريب” اللذين كانت تتولى الإشراف عليهما الولايات المتحدة الأميركية أثناء احتلالها للعراق، وقد يكون بدأ التخطيط لمشروع دولته الذي سيظهر إلى العلن بعد ذلك بعامين تقريباً خلال فترة سجنه التي لا بد أن يكون التقى خلالها العديد ممن سيصبحون قادة للتنظيم.
 
ومنذ مقتله مطلع العام 2014 اختفى اسم حجّي بكر، واختفت أسماء الضباط الآخرين الذين يشكلون مجلس قيادة التنظيم ليتصدر اسم أبي بكر البغدادي زعيم التنظيم وحده المشهد، لكن هل البغدادي زعيم حقيقي أم زعيم على الورق فقط؟
 
أشارت معلومات نشرت مؤخراً إلى أن أبا بكر البغدادي ليس سوى واجهة، وأنه لا يملك حرية التصرف في التنظيم أو في وضع خططه واستراتيجيته، وأن الأمور كلها بيد العقيد مازن نهيري الذي يعرف بـ”أبوصفاء الرفاعي” وهو أيضاً ضابط سابق برتبة عقيد في الجيش العراقي الذي قامت القوات الأميركية بحله عقب احتلالها للعراق في العام 2003. وكما يقول العميد أبو أيوب الضابط العراقي المنشق عن تنظيم داعش، والذي يذكر تفاصيل تكمّل رسم صورة حقيقية لتنظيم داعش منذ نشأته وحتى يومنا هذا، “في أعقاب الاحتلال الأميركي للعراق، سرّح أبو أيوب شأنه شأن حجي بكر ومازن نهيري وضباط آخرين سيشكلون القيادة العسكرية العليا لتنظيم داعش ومن بينهم العقيد عدنان الدليمي أو أبو عبدالرحمن البيلاوي، والعقيد فاضل أحمد عبدالله الحيالي الذي عرف لاحقاً باسم أبومسلم التركماني، وأبوعلي الأنباري”.
 
قتل القادة العسكريون لداعش جميعاً ولم يبق إلا مازن نهيري الذي لا يعرفه حتى قادة الصف الثاني في التنظيم، والذي أسس منذ البداية مكتب استخبارات قوياً على غرار فكرة أجهزة استخبارات الأنظمة الشمولية، إذ أنه لا يوجد نظام أو منظومة من دون حماية، على أساس هذه الفكرة تم إنشاء المكتب، وأولى الخطوات التي قام بها المكتب هي تشكيل مفارز للتنظيم تقوم بالاستطلاع وجمع المعلومات.
 
انضم أبو أيوب بعد ذلك بسنوات إلى تنظيم داعش، ثم أصبح مستشاراً عسكرياً للتنظيم، وشارك في إقامة الدورات العسكرية الخاصة بصناعة المتفجرات والأحزمة الناسفة، إلى جانب دروس في الاستخبارات والأمن والتخفي. وكان يقيم في إقليم كردستان ويدير عملياته من هناك.
 
 
اعترافات أبي أيوب تشير إلى أن حجي بكر كانت له “زيارات مكوكية إلى سوريا، وتنسيق بشكل مباشر مع النظام السوري، عن طريق عميل للمخابرات السورية الذي يدعى معاذ الصفوك”.
نشأ تنظيم داعش تنظيماً محلياً عراقياً، بقيادة ضباط عراقيين لهم خبرة في الدفاع والتسلح والاستخبارات، وقد نشأت صلة بين التنظيم ومخابرات نظام دمشق عقب اندلاع الثورة السورية عبر ضباط استخبارات عراقيين كانوا قد انضموا للعمل مع المخابرات السورية بعد فرارهم من العراق.
 
 
اجتماعات داعش مع ضباط إيرانيين
 
يقول أبو أيوب “كانت لحجي بكر زيارات مكوكية إلى سوريا، وتنسيق بشكل مباشر مع النظام السوري، عن طريق عميل للمخابرات السورية يدعى معاذ الصفوك وابن عمه زياد الصفوك، وهما من المعروفين سابقًا لدى أبي بكر البغدادي، وكان يحضر حجي بكر والبيلاوي مع ضباط مخابرات، منهم حسين الخضر المسؤول في مخابرات أمن الرئاسة السورية، وضابط استخبارات إيراني يدعى علي فرماني، والذي تولى ملف داعش نهاية عام 2014 في المخابرات الإيرانية”. ولكن كان دعم النظام السوري لأبي بكر البغدادي محدودًا، وكان اقتصاديًا أكثر مما هو سياسي وعسكري، كان فرماني على تواصل مع البغدادي، وكان يزوده بمعلومات عن قادة التنظيمات والفصائل المتطرفة في سوريا، وبخاصة قادة “النصرة”.
 
وتمتدّ هذه العلاقة لتصل إلى إيران التي ترى من مصلحتها الإبقاء على تنظيم داعش، وهو ما تؤكده شهادة أبو أيوب الذي يقول “تكمن مصلحة تنظيم داعش في عدم مهاجمة المصالح الإيرانية في حصول التنظيم على المتفجرات والمواد الإشعاعية لاستعمالها في عملياته الإرهابية، وأيضا مصلحة إيران في إبقاء أميركا والغرب تحت عبء تنظيم الدولة والقاعدة في العراق وفي باكستان وأفغانستان”.
 
ولعل العميد أبو أيوب يغفل جانباً مهماً وهو زيادة الضغوط على منطقة الخليج العربي، والتي تمثل هدفاً لا تخفي إيران سعيها للسيطرة عليه، ويبدو ذلك واضحاً في اليمن، إذ ليس خفياً أن أذرع داعش قد امتدت إلى البلد الذي تعيث فيه فساداً جماعة الحوثيين الموالية لإيران، وقد تعددت العمليات التي يقوم بتنفيذها تنظيما داعش والقاعدة ضد معارضي الحوثيين في مختلف المناطق.
 
ويبرز اسم العميد حسين سلامي في شهادة العميد أبو أيوب على أنه صلة الوصل بين تنظيم داعش وبين القيادة الإيرانية، ويشغل الجنرال سلامي منصب نائب رئيس الحرس الثوري الإيراني، وهو معروف بمواقفه المتشددة وسبق له في العديد من المرات أن رفع قبضته مهدداً دول الخليج العربي، ويصفه أبو أيوب بأنه رجل ذو عقلية مخابراتية قوية جداً، وكان يعمل مستشاراً للرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني إبان فترة عمله رئيساً للأمن القومي الإيراني، وهو العقل المدبر للحرس الثوري.
 
 
اسم الجنرال حسين سلامي يبرز في شهادة أبي أيوب على أنه صلة الوصل بين تنظيم داعش وبين القيادة الإيرانية، ويشغل سلامي منصب نائب رئيس الحرس الثوري الإيراني.
ويضيف أبو أيوب أن حسين سلامي كان على تواصل مع قيادات عراقية وسورية لفتح المجال أمام تنظيم داعش للتوسع، فقد نقل علي فرماني رسائل من حسين سلامي إلى مسؤولين كبار، بإطلاق سراح السجناء المنضمين إلى تنظيم القاعدة وحزب البعث، وساعدت هذه القيادات في مخطط هروب السجناء في العراق وإطلاق سراح معتقلين من سجون بشار الأسد.
 
كل هذا كان بأمر من إيران، وكانت قيادات من تنظيم الدولة لا تصدق أن هذا يحدث بهذه القرارات، حتى جاء يوم اللقاء بين خضر الحسين الضابط في المخابرات السورية وعلي فرماني والصفوك، وحجّي بكر في سوريا، حيث شرح علي فرماني منجزات ونشاطات إيران لصالح تنظيم داعش، وكيف أنه ساعد في إخراج السجناء. وهنا بدأ دور إيران في دعم داعش ولكن بصورة غير مباشرة.
 
 
إيران أكبر من الخرائط
 
كان لإيران دور كبير في مساعدة تنظيم داعش على احتلال مدينة الموصل العراقية حيث أصدرت قيادات عراقية قرارًا بالانسحاب وترك الأسلحة والمعدات لصالح التنظيم. بل إن أوامر مباشرة صدرت من رئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي، الذي كان يشغل منصب القائد العام للقوات المسلحة، للقوات الموجودة في الموصل بالانسحاب ومغادرة المدينة ما فتح الطريق أمام تنظيم داعش لاحتلالها دون مقاومة تذكر، بحسب شهادة أدلى بها قائد القوات البرية السابق في الجيش العراقي الجنرال علي غيدان أمام لجنة شكلها مجلس النواب العراقي لتحديد أسباب سقوط المدينة بتلك السهولة. وليس خافياً ارتباط المالكي الكامل بإيران وتبعيته لها.
 
في خطاب له مطلع العام 2016 قال العميد حسين سلامي إن “إيران أكبر وأوسع مما تحده الخرائط الجغرافية” وتتشابه هذه المقولة تماماً مع ما يردده قادة وأتباع تنظيم داعش، ولعل سلامي كان يقصد أن ذراع إيران الممتدة عبر حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، والميليشيات الطائفية في سوريا، هي أيضاً تمتد عبر تنظيم داعش في كل مكان يصل إليه.
 

العرب :ثائر الزعزوع