تمهيد: 
يمتاز المذهب الشيعي الإثني عشري بالاعتدال والوسطية ونبذ العنف، والابتعاد عن مهاوي السياسة ومخازيها منذ أن أرسى دعائم الإمامة الروحية الإمامين عليُّ بن الحسين بن علي، الملقب بزين العابدين، وابنهُ الإمام محمد "الملقّب بالباقر، وسار على منوالهم سائر الأئمة حتى الإمام الثاني عشر وهو المهدي المنتظر، وظلّ المذهب أقرب المذاهب الإسلامية لمذهب أهل السُّنة والجماعة، رغم النزاعات الدامية حيناً والباردة حيناً آخر ، وظلّ المذهب شاهداً على حُنوّ خاص لأهل بيت النبي ومصارع الطالبيين، وفي مقدمها مصرع الإمام الحسين بن علي في كربلاء، والمسار الاضتهادي الذي مارسته الخلافة العباسية لأتباع المذهب، وتواصلت حملات الاضطهاد خلال العهد العثماني، وحكم المماليك، حتى ظهرت الدعوة الصفوية بداية القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي، والدعوة الخمينية أواخر القرن العشرين.
أولاً: كان لاعتناق الشاه إسماعيل الصفوي المذهب الجعفري- الإثني عشري، وابتداعه الطريقة الصفوية أثراً سلبياً على جموع شيعة العالم العربي، فقد بدأ تطبيق المذهب بالعنف والتطرف،حتى قيل أنّه أمر بسبّ الخلفاء في تبريز جهاراً، هذا مع أنّ ثُلثي سكان المدينة ليسوا شيعة. وما لبثت الطريقة الصفوية حتى جذبت إليها فقهاء ورجال الدين الإثني عشرية في جبل عامل فهاجروا إلى إيران حتى تمتّع من احتلّ منهم مركز شيخ الإسلام بالحرية الدينية والسياسية المطلقة، فاندفعوا لبناء هذه الدولة على أساس شيعي، (كما ذكر الوردي في: لمحات اجتماعية)، وأدّى ذلك إلى استحداث العديد من المسائل البعيدة عن روح العقيدة، ولئلاّ نظلم الصفويين كثيرا، فبعض المُحدثات يعود للعصر البويهي أو العصر الايلخاني، ومنها تطوير مجالس التعزية في عاشوراء، وإضافة الشهادة الثالثة، وحيّ على خير العمل، ونقش اسم علي على النقود، ومسألة التربة الحسينية المشوية، والخراج وتغيير اتجاه القبلة في مساجد فارس، وضرورة الدفن في النجف، ويبقى أخطرها ظاهرة السّب المقترن بالاضطهاد الطائفي، والذي ترك ردود فعل سلبية، وأثّر على شيعة الحجاز والعراق وبلاد الشام ، الذين تعرّضوا للاضطهاد بفعل الرّد بالمثل.
يبدو أنّ معظم الأمور المستحدثة في عصر إسماعيل الصفوي على عقائد الشيعة كانت قد انبعثت من النزعة الصوفية السائدة في أيامه، مما ترك أثرا سلبياً  أضرّ بالتشيع وشوّه سُمعته، على الرغم من ازدياد عدد الشيعة بفضل دعوته.
ثانياً: الشاه طهماسب والشيخ الكركي..
بعد وفاة الشاه إسماعيل خلفه ابنه الشاه طهماسب الأول، وكان بحاجة لمن يرشده في دينه ودنياه، لذا ترك أمر التشيع بيد الفقهاء، فكلّف الشيخ علي الكركي، والذي عُرف بالمحقّق الكركي، القيام بأعباء المذهب، باعتباره صاحب الدولة ونائب الإمام الغائب، وأنّ على الجميع امتثال أمره، ورتّب له مرتبات ضخمة، ومنحه قرى زراعية ليأخذ خراجها، ويرى الدكتور كامل الشيبي أنّ الكركي أفرط في تأييد مستحدثات الدولة الصفوية، بحيث وافق على أمور لا يجوز في الشرع الموافقة عليها، كلها أو بعضها، ومن أجل ذلك أطلق عليه خصومه لقب "مخترع الشيعة"، والتي أشارت إلى بعضها كتب المحققين، كتجويزه السجود على التربة المشوية بالنار ( بعد أن حرّم ذلك الشيخ إبراهيم القطيفي، فردّ عليه الكركي)،ومنعه تقليد الميت، وتجويزه السجود للعبد، وغيرها مما ورد في مؤلفاته، ممّا دفع القطيفي للردّ عليه، ونُقل عن الخوانساري في روضات الجنات، أنّ الكركي غيّر القبلة في كثير من بلاد العجم، وأمر بإخراج العلماء من المخالفين لئلاّ يُضلّوا الموافقين، وكان لا يخرج إلاّ والسّباب يمشي في ركابه، ويفسّر الخوانساري ذلك بتركه التّقية، حتى اضطرّ علماء الشيعة في مكة ليكتبوا إلى علماء أصفهان: إنّكم تسبّون أئمتهم في أصفهان ، ونحن في الحرمين نُعذّبُ بذلك،
أدّى الجدال بين الكركي والقطيفي إلى انقسام علماء الشيعة في حينه إلى فريقين متنازعين، وانتهى النزاع طبعا بانتصار الكركي، بفضل الدولة وأموالها ومغرياتها.
ثالثاً: الشاه عباس، العودة عن التطرف والغلو..
انتهى صراع تاريخي مرير داخل الأسرة الصفوية، بعد مقتل الشاه محمد بن طهماسب ومجيئ ابنه الشاه عباس (٩٩٦-١٠٣٨ هج) الذي يمثل العصر الذهبي الصفوي والذي تميّز بما يلي:
- منع سبّ الخلفاء والتعزية الحسينية، لتصالحه مع العثمانيين، ليتفرغ لقتال الأزيك في الشرق.
-عُرف بالتسامح الديني وخاصة مع المسيحيين، على خلاف جده طهماسب.
-اهتمّ بمرقد موسى الرضا وتذهيبه، ليُعوض عن العتبات المقدّسة في العراق.
استقر الأمر على توثيق العلاقات بين الدولة الصفوية وعلماء جبل عامل الذين نقلوا نشاطهم إلى إيران، فأخذت مدارس إيران تخرّج المتكلمين والفقهاء، وغدت إيران مركز تجمع ونشاط علمي، وتراجع التأثير الديني في العراق، لعوامل سياسية صرفة، وساد في العراق ولبنان ميل متحفظ إزاء ما يدور في المجتمع الصفوي.، وسادت ميول التعمق في مجمل مبادئ العقيدة على أساس منطقي وفلسفي، تمثّل في مدرسة الدامادا ثم صدر الدين الشيرازي وتلامذته.
رابعاً : الدعوة الخمينية..
يمكن اعتبار الدعوة الخمينية خروجاً واضحاً على منحى الإمامة الروحية للإمامين زين العابدين والباقر وخلفائهم، فالامامة الروحية نبذت الدنيا وفي مقدمها السلطة والمُلك، وهذا ما طلبه الباقر من أخيه زيد بن علي بعدم الخروج على هشام بن عبد الملك الأموي، والسيد روح الله الخميني ذهب إلى قلب المعتقد رأساً على عقب، فقد دعا إلى ولاية الفقيه، أي السلطة السياسية على الأمة، وإخراج هذه الولاية ، السياسية والإدارية، مخرج أصل فقهي وشرعي، وترتّب على هذه الدعوة إيلاء علماء الدين الشيعة "القيادة" السياسية والاجتماعية والثقافية، وتقديمهم على أهل السياسة حُكماً كما يرى وضاح شرارة، وهذا يُفضي إلى جواز إخراج الجماعات من سلطان الدولة الوطنية، وهذا يقود، ولعله قاد إلى المشاكل الناشئة عن تصدير النظرية خارج إيران ، وتحديدا في العالم العربي، وإذ من المفيد عدم إطلاق أحكام مطلقة ومتعجلة في النظر إلى ما آلت وما يمكن أن تؤول إليه في تاريخ الشيعة.
العرب، فإنّ تغليب المرامي السياسية وإدخالها في صميم المصالح الإقليمية، يجعل من اعتمادها عقيدة وميزان عمل ومرشداً لا تردُّ إرادته، مصدرا خطيرا لهوية الجماعة وعقيدتها وولائها لاوطانها وانتمائها القومي والثقافي وانغراسها في مجالها الجغرافي.
كلمة أخيرة، ذلك أنّ اعتناق الخمينية أصبح واقعاً صاخباً في أوساط الشيعة العرب، إنّه من الظلم أن تردّ الخمينية إلى إيران الصفوية، لقد حافظت الصفوية على مخزون الشيعة الروحي، في حين أطاحت به الخمينية على مذبح السياسة والمُلك والتوسع الإقليمي.