وماذا لو كان كل رؤساء الجمهورية، والحكومة ومجلس النواب اللبناني غير «ميثاقيين»؟ هذا ما قد نستنتجه من مفهوم الميثاقية الذي «ينادي« به ويفسره كل من حزب خامنئي و»التيار الوطني الحر» كأنه «القانون الأرثوذكسي« المقنع الذي اقترحه هذا الأخير وأيده سمير جعجع، أو كأنه التقسيم المذهبي الذي فرضه السوريون وقبلهم ياسر عرفات، ومارسته الميليشيات المذهبية من مسيحية وإسلامية ويسارية وقومية: كل طائفة تستقل «برئيسها» بحيث يصبح عندنا نظام كانتوني، يستقر كل حزب فيه «بقطيعه» ليؤسس جمهوريته. ونظن ان هذه الظاهرة مستمدة من طريقة انتخاب بعض المؤسسات الدينية أو الحزبية الأخرى. فالأكثري في مذهبه رئيس إما للحكومة، أو للجمهورية، أو للبرلمان. أهي بدعة جديدة، أم قديمة، أو «ابداع» للعودة إلى نظام «البشمركة» أو المتصرفيات، أو التقطيع الاقطاعي (العائلي)، أو نظام الحمايات الخارجية: فإذا أخذنا بهذا المنطق بمفعوله الرجعي فيعني ان الدستور المكتوب، والميثاقية والانتخابات والتعيينات منذ استقلال لبنان حتى اليوم، غير دستورية وغير ميثاقية وباطلة! فهل كانت الانتخابات اللبنانية وتقسيماتها والجمهورية والحكومة والبرلمانية، تعدياً على كل الأعراف والقوانين؟

فلنأخذ رؤساء جمهورية لبنان منذ الشيخ بشاره الخوري فإلى كميل شمعون واللواء فؤاد شهاب وشارل حلو وسليمان فرنجية والياس سركيس ورينيه معوض وأمين الجميل وصولاً إلى إلياس الهراوي، فإميل لحود، فميشال سليمان... أترى كل هؤلاء الذين شاركوا في انتخابات الأحزاب المختلطة، غير ميثاقيين، لأن الرؤساء المنتخبين لم يكونوا الأقوى في طوائفهم؟

لم يكن بشاره الخوري هو الأقوى شعبياً بل إميل اده، ومن ثم العميد اده، أو بيار الجميل. وكميل شمعون نفسه قبل انتخابه، كان نائباً، لكن الشعبية المارونية الكاسحة كانت لإده والجميل آنئذ (قبل أحداث 1958) وفؤاد شهاب لم يكن لا رجلاً شعبياً ولا ذا امتداد شعبي: كل زعماء الموارنة آنئذ (الثلاثة الأساسيين الجميل، إده، شمعون أقوى منه ومع هذا فقد ترشح إده ونال أصوات حزبه فقط 6 أصوات). أما الياس سركيس فكان رجلاً إدارياً. وشارل حلو مثقفاً نخبوياً وسليمان فرنجية زعيماً محلياً وأمين الجميل زعيماً حزبياً لا يؤكد أحد انه كان أقوى من شمعون. ونصل إلى اميل لحود، الذي لم يكن سوى مجرد ضابط عادي. وهكذا الياس الهراوي الذي كان مجرد نائب محلي. وصولاً أخيراً إلى ميشال سليمان: كان جنرالاً لا حزب وراءه ولا امتداد شعبياً!

هؤلاء كلهم انتخبوا في مجلس النواب بالأكثرية النيابية (نتذكر ان سليمان فرنجيه ربح بفارق صوت) من مسلمين ومسيحيين... بمعنى آخر، علينا وبمنطق الأقوى في طائفته كما يطرح عون وحسن نصرالله ان نشكك بميثاقية كل هؤلاء. ميشال عون، أصلاً، اعتبر كلاً من اميل لحود ورينيه معوض والياس الهراوي وميشال سليمان غير «شرعيين». فالسوسة الميثاقية كانت بدأت تنخر مفهومه للجمهورية.

[حكومة اللون الواحد

وأبرز دليل على ذلك، وباسم الميثاقية نفسها، ألّف عون أول حكومة عسكرية من لون مسيحي واحد مقابل حكومة الرئيس سليم الحص. فأيهما الميثاقي، عون الذي كان الأقوى في طائفته أم سليم الحص الذي لم يكن كذلك: والغريب ان المتحدثين عن الميثاقية سواء حزب خامنئي أو حليفهم الجنرال، يتناسون حكومة عون، التي لم تضم أي مكوّن غير المكون الطائفي: لا شيعة ولا سنة ولا دروز.... ثم انها كانت أول حكومة مؤلفة من دون تعيين او ثقة لرئيسها في مجلس النواب!

إذاً، أكان عون ميثاقياً، ام لا؟! فمنطقه الراهن يلغي شرعيته السابقة!

وعلى هذا الأساس يمكن سحب هذا المنطق على رؤساء الحكومة: فالرئيس شفيق الوزان كان الأضعف وكان صائب سلام الأقوى (والحال تنطبق على سامي الصلح من قبل. وتقي الدين الصلح الذي عينه الرئيس فرنجية لم يكن على شعبية سنية مشهود لها... أما «حزب الله« الذي فرض نجيب ميقاتي بعد انقلاب «القمصان السود« على حكومة الرئيس سعد الحريري، ابلغ مثل على ذلك. فالرئيس الحريري كان الأقوى اطلاقاً في بيئته السنية، فماذا يقول حزب خامنئي اليوم، إذا تذكر ما ارتكبه بقوة الترهيب بحق منطقه الميثاقي! ونصل إلى الرئيس تمام سلام الذي ورث الزعامة عن والده صائب سلام، لكنه لم يكن لا أقوى من الرئيس الحريري ولا سواه. مع هذا، تم تعيينه رئيساً للحكومة....

فماذا نقول اليوم؟ فالتيار الوطني (صاحب أول حكومة طائفية عسكرية من لون واحد) يشهر مفهوم «الأقوى في طائفته» ويدعمه على سبيل المناورة والتعطيل وتدمير الدولة والدستور حسن نصرالله كأساس وحيد لانتخابه، في حرب شبه إلغائية جديدة لكل زعماء الموارنة بمن فيهم سمير جعجع وأمين الجميل وبطرس حرب (هزم العونيين في البترون في الانتخابات النيابية والبلدية) وسليمان فرنجية! نتذكر هنا موجة حروب «الإلغاء« بين الأحزاب المارونية بين القوات والأحرار (الصفرا) وبين عون وجعجع... من دون أن ننسى حرب الإلغاء التي شنّها حزب ايران على «امل» في اقليم التفاح والضاحية... أهي حروب الالغاء مستمرة من استخدام السلاح والقوة وحتى ابتداع قوانين «انعزالية» فإلى ابتداع «تأويلات» وتفسيرات هي ذرائع لاستمرار التقوقعات المذهبية التي يمارسها حزب سليماني لتمويه أهدافه النهائية في الاستيلاء على الجمهورية واعادة انتاج نظام مرشد جديد أو ولي فقيه يصير فيه لبنان كله كانتونياً إيرانياً فارسياً.

[تدمير الفرد

ونظن ان هذه «الحجج» التي تخفي وراءها تدميراً للفرد، وللمجتمع وللفكر والاختيار والسياسة نفسها. فكأن نظام بعض الأحزاب السائدة منذ قبل الاستقلال أي «الأقوى» في بيئته الانتخابية أو الأيديولوجية العائلية... هو القائد والرئيس الأبدي.... وحزبه بأفكاره ومواقفه ومواقعه على صورته «من الأبد إلى الأبد» أي استعادة زمن الأقوى عسكرياً أو ميدانياً إلى الأقوى «كانتونياً»... وكلنا يذكر كل هذه الحروب التي اندلعت بين أهل «الخندق الواحد» وما رافقتها من اغتيالات وتصفيات ومجازر ليكون للمنتصر «عسكرياً» الهيمنة المطلقة.. هذا المنطق قد تراجع نسبياً كما نظن، لكنه مستمر، سواء بسلاح «حزب الله« الإيراني، (الأقوى من الناس والعسكر والأمن والدولة) أو بمنطقه السياسي «الأقوى في بيئته»: والمنطقان متلازمان اليوم. فالذي يحمل السلاح يسود بالقوة، والزاعم انه الأقوى بالقطعان هو الأقوى. الحالة الأولى موروثة من عهد الميليشيات والحروب التي لم تكن أكثر من مجموعات مرتهنة للخارج، والثانية من زمن الفاشيات والجماهير المضلّلة، المغسولة الأدمغة، الموبوءة بالعنصرية أو الاثنية... أو الطائفية. ويعني ذلك، ان هذه الظواهر التي يغذيها حزب خامنئي وقبله آل الأسد واسرائيل طبعاً، هي محاولة محو للتاريخ والاختلافات الفكرية والسياسية والثقافية وهي جوهر الديموقراطية والحرية... واحترام الفرد؛ أي الوقوع في أنظمة شمولية مصغرة ليس للمجتمع، ولا الأحزاب، ولا الاعتراضات أو النقد مكان فيها: مجرد كتل مصنوعة من قشّ الشعارات والادعاءات ونشر ثقافة الخوف من الآخر، أو من كل ما هو مختلف. هذه هي الهمجية التوتاليتارية انتقلت من 99،99 للقائد القاتل، إلى 99،99 للقائد «الطائفي»: تماه يكاد يكون كاملاً: ولهذا يمكن ان نعود إلى ما آلت اليه الجمهوريات الثورية في عالمنا العربي: من تنوع في الصراع السياسي (قبل الثورات المزعومة في نهاية الستينات: البعث في سوريا والعراق، والماوية الكاريكاتورية في ليبيا والاشتراكية المفرطة في اليمن) ليصير تحولاً حزبياً أحادياً ثم ليتحول سلطة مناطقية او قبلية (صدام، آل الأسد، القذافي) وأخيراً... لدكتاتورية عائلية طبعاً «ثورية»!. كأنها الشعوذة أو ابتداعات سحرية تحول النظام «الثوري الجماهيري» نظاماً عسكرياً عائلياً مذهبياً. انه المثلث الجهنمي الذي تسبب بكل الهزائم العربية وكل أشكال الطغيان الاستبدادي والتخلف وكل الطموحات العدائية (آل الأسد اكتشفوا انهم ورثوا سوريا ولبنان عن أجدادهم فملكوا سوريا... واحتلوا لبنان طبعاً كُرمى لإسرائيل مقابل الجولان). 

[... والحكومة أيضاً!

في آخر الأخبار السود عن ميثاقية حزب بني فارس والتيار مقاطعة الأخير للحكومة وتأييد الأول له: يعني سحب «الميثاقية» المزعومة من الوزارة. أي تعطيلها تعطيلاً «دستورياً» ميثاقياً. غريب ان تصبح الميثاقية (او التعدد الاجتماعي) أداة تعطيل للبرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية. فيكفي ان ينسحب مكون من الحكومة حتى تصبح غير شرعية ومن يقاوم هذه البدعة يعتبر غير ميثاقي. انها اللعبة «الصبيانية» الخطرة، خصوصاً عندما يسود عقل الصبية و«القمصان السود« وسلاح العدو الإيراني! بل عندما تنتشر فروع «العصفورية» (وشخصية دونالد ترامب في أرجاء المؤسسات كلها).

أترى، يحاول «خبث» حزب خامنئي ان يُبطل كل تاريخ لبنان الحديث، من خلال «الميثاقية« نفسها؟ أهو يريد ان يضع حداً لاغياً بين لبنان الماضي ولبنان الحاضر: أي تشريع لبنان يبدأ بمقاومة عميلة وبحزب مرتهن وبأيديولوجيا هي مجموعة عناصر ارهابية، شمولية، دكتاتورية!

ما قبل «عصر» الميليشيات ومن وراءهم، وصولاً إلى «حزب الله« الأخطر والأكثر سواداً من قمصان غلمانه وسراياه، كان هناك نائب يصوت أو بشكل مستقل أو بشكل حزبي او سياسي... حتى في زمن الحروب. لكن، عليك اليوم وباسم «ميثاقية» مزعومة ان تقبل انتخابات بلا انتخاب، وبمجلس نيابي لا يصوت ولا يشرع ولا يذهب نوابه اليه. وعلى هذا الأساس، يريد حزب بني فارس ان يقوم هو بتعيين الأسماء العظمى ويزكيهم ثم يذهب ممثلو الشعب (الذين باتوا ممثليه كما في جمهورية القتلة في إيران) وينتخبونهم!

جمهورية بلا جمهورية، ومجلس نواب بلا نواب وحكومة بلا وزراء! وبلد بلا شعبه وأحزاب بلا قرارات لم يعد لهم سوى الا يكونوا لا ناساً ولا بشراً: كروبوتات تحركها أصابع ولاية الفقيه لكن ببصمة حزبها... انها الميثاقية الكبرى! انها الميثاق «المُنتظر».

بول شاوول