هناك أمور لا مجال للكثير من اللف والدوران حولها. منذ سحبت مقولة «الحركة الاستقلالية» من التداول والإعلام السياسيين، صار الردح يحتل المجال كله، وعلكت نفسها التحليلات في الشأن الداخلي، الى حد كبير. يكاد العنصر المفيد، اليتيم فيها، أن يختصر بالتالي: البلد في الثلاجة، في ثلاجة ما، الى أن يلوح «وضوح استراتيجي» في مآل الوضع في سوريا وفي الاقليم.. وفي العالم!!.

ولا تعني علامتا التعجّب هنا، التراجع عن كون هذا العنصر الحاضر في كل التحليلات والمداولات بالشأن اللبناني، والذي يرهنها للعامل الخارجي، هو وحده المفيد. بالعكس، هذا هو عين الحاصل.

بكل عبثية ذلك بالنسبة الى أوضاعنا، فهي معلّقة، في الفضاء، في المجهول، ولأجل غير مسمّى. وبهذا المعنى فراغ سدّة رئاسة الجمهورية هو تكثيف لحالة سياسية شاملة، وليس كما خيّل في البداية، أنه فراغ في رئاسة بامكانه أن يتعايش مع تسيير شؤون الحكومة والدولة بعامة، بالتي هي أحسن.

البلد معلّق أكثر فأكثر، ورهينة العوامل الخارجية أكثر فأكثر، والأهم: البلد رهينة لامبالاة العوامل الخارجية تجاه الأوضاع الداخلية المعلّقة بها، والمتأملة فيها، والساعية وراءها، والمراهنة عليها، أو المحبطة بصددها.

لكن هناك تفاوت بين القوى والمواقع لا يمكن نفيه. فـ»حزب الله» يختلف عن الآخرين في مسؤوليته حيال الاستحقاق الرئاسي. لا ينتخب رئيساً ولا يدع الآخرين ينتخبون رئيساً، ويفضل مرشحاً حليفاً على مرشح حليف آخر، من دون القيام بأي جهد لايصاله. وبالتأكيد، العماد ميشال عون يلمس تماماً أن الدعم الذي يناله، في الموضوع الرئاسي، من «حزب الله» ليس كافياً لايصاله، ما دام أنه ليس كافياً لاعادة تشكيل الاجماع حوله ضمن دائرة الثامن من آذار.

بيد أن «حزب الله» الذي يستثمر في الفراغ والتعطيل، ويحتاج اليهما بالتوازي مع تدخله الحربي الاستنزافي في سوريا، هو حزب يحدّد خطواته داخلياً وفقاً لاحداثيتين:

- الاولى هي بدء العد العكسي لانتهاء الولاية الممددة مرتين «حتى الآن» للمجلس النيابي، هذا المجلس المغلول اليدين تشريعياً، بصريح الدستور، ما دام عاصياً على انتخاب رئيس وفقاً لأحكام الدستور والواجبات الدستورية الأساسية لنائب في البرلمان اللبناني.

اقتراب موعد انتهاء مدة الولاية الممددة من دون قانون انتخاب ومن دون «سياق انتخابي» من شأنه أن يثير المخاوف من حالة فراغ كامل، بلا برلمان ولا حكومة ولا انتخابات وليس فقط لا رئيس. وهذا الوضع سيرفع من محاولات الابتزاز للمكونات الراغبة في عدم الذهاب بعيداً عن الفوضى.

- الاحداثية الثانية التي لا تغادر منظار الحزب وحلفائه الاقليميين والداخليين هي المحكمة الدولية. موضوع المحكمة ما زال الشغل الشاغل لدى قيادة هذا الحزب، رغم كل السنوات التي مرت، وفظائع الحرب السورية، وأفلام الرعب الارهابية عبر العالم.

بالنسبة الى الحزب فإن وقت غض الطرف الدولي عنه، أو عن وضعنا الداخلي، هو وقت محدود، وينبغي اغتنام كل دقيقة فيه لتحصيل المزيد من «التحصينات» الموضوعية والمعنوية لموقفه وحركته داخلياً.

في هذا الوقت المحدود، الحزب معني بأمرين: التحسب للمحكمة الدولية، والاستعداد للحظة المأزق، ساعة نقترب من نهاية ولاية المجلس النيابي الحالي بلا قانون انتخابي وبلا انتخابات وبلا مخرج. ليس عند الحزب الآن كماليّات البحث عن شروط المؤتمر التأسيسي. أبداً. مراهنته أخطر: الانتقال من حالة الفراغ النسبي الى حالة الفراغ التام. لكن ليس للذهاب بها الى خواتيمها، بل لانتزاع ما يريده، تحت ضغط الخوف من الذهاب الى المجهول.

بسحب مقولة الحركة الاستقلالية من التداول، فقدت المادة السجالية مع الحزب، وبينه وبين أخصامه، حيويتها وأكثر معانيها، وصارت الأمور ملهية بدواماتها من مثل «أخرج من سوريا - لن أخرج»، «اختر حليفاً من حليفيك - اخترت ولن أفرض». وفي حالة الحرب السورية، يستغني فيها عن استشارة أي كان من خارج نسيجه. وفي الحالة الثانية، حالة التسريع بأي ملف تنفيذي كما تأمين قيام النواب بواجبهم الدستوري الانتخابي للرئيس العتيد، يصير هو وحليفه البرتقالي من أرباب الميثاقية، انما ميثاقية لامعيارية، ومزاجية.