كبّرتها الهموم والمسؤوليات قبل أوانها، لكن المصائب التي حلّت عليها لم تُفقدها الأمل والرجاء... بدقائق معدودة، بدّلت تفجيرات القاع مجرى حياة الشابة، الزوجة والأم كارين فارس. و جعلها هذا العمل الإرهابي تكتشف كم هي مؤمنة، قوية، صبورة وتتحمل الصعاب وهي في الـ24 من عمرها فقط ... ما قصتها؟


وُلدت فارس في بلدة القاع، وتأهلت من جورج فارس في تموز 2013. رزق الزوجان بطفلتهما مافي التي أبصرت النور حين كانت والدتها حاملاً بها في الشهر السادس واليوم العشرين، ما نجم عن ذلك في ما بعد تأخر شديد في النطق والحركة. تقول كارين لـ"النهار": "عمر مافي اليوم سنتان وهي لا تقوى على الحركة وتعاني تعثراً في النطق". ولا تتمتع بطفولتها ولا تلعب أو تلهو مع أطفال جيلها، بل تخضع لعلاج فيزيائي وآخر نطقي، "علّها تتفاعل مع العلاجات وتصير في حال أفضل"، تأمل كارين وهي المجازة في الأدب الفرنسي، والمعلمة في مدرسة الراهبات الباسيليات الشويريات في القاع.


ما ان أنهت كارين العام الدراسي ودخلت في الإجازة الصيفية لتمضي أوقاتها مع عائلتها الصغيرة، حتى هطلت المصائب عليها دفعة واحدة. ماذا حصل؟

"لحظات لن تنسى"
في ذاك اليوم المشؤوم، 27 حزيران الفائت، عند الرابعة من فجر الأثنين، وقعت الكارثة مع تفجيرات القاع الإرهابية. تروي كارين بغصة: "استيقظنا على صوت قوي وغريب ظننا للوهلة الأولى أنه ناجم عن قصف أو سقوط صاروخ من طريق الخطأ، وإذا بنا نُفاجأ بخبر انتحاري يفجّر نفسه في أول الشارع الذي يؤدي إلى منزل أهلي، ووالدي جورج فارس، المتقاعد من المؤسسة العسكرية، وكان مرمياً على الأرض وهو في طريقه إلى عمله في مشروع زراعي. حاول زوجي والجيران انقاذه من دون جدوى لأنه توفي على الفور عن عمر الخمسين. وحاول جورج إبعاد والدتي المنهارة من موقع الإنفجار، وأنا داخل السيارة مكبّلة وطفلتي بين يدي، أرى ذلك المشهد المرعب المخيف كالكابوس أمام عيني".
ووقع التفجير الثاني عندما كان المواطنون يتجمعون في المكان بعد وقوع الأول، واستشهد في الثاني والد كارين وغيره من المدنيين وأصيب العديد بجروح بالغة، وبعد عشر دقائق دوى التفجير الثالث. تروي كارين، "لم أكن أستوعب ما يجري من حولي، وكأنني أُشاهد فيلماً من أفلام الرعب، وقدّرت أن يكون زوجي ووالدتي دنيا شحود بين ضحايا التفجير وقد طيرهما الإنفجار في الجو. أقتربت من جورج وتحدثت إليه ولم أفلح في مساعدته لأن شظايا الإنفجار أصابت رجله وبترتها من نصفها، ولم أعثر على أمي إلا في المستشفى".

 

شهران من المعاناة في المستشفى... وبعد؟
بعد مرور أسبوع على العمل الإرهابي الذي استهدف القاع وأهلها، توفي جد كارين الذي حزن على نجله بعدما تعرض لسلسلة ذبحات قلبية. وبقيت والدة كارين في العناية الفائقة في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت بعدما أمضت فترة في مستشفيات زحلة. وتقول إن ما تعرضت له والدتها جراء التفجير ليس سهلاً على الإطلاق، "أصابت شظايا بطنها الذي ظل ينزف طويلاً، إلى أن تمكن الأطباء من السيطرة على النزيف بعد خضوعها لعمليات عدة". تضيف: "والأمر الذي أخّر تقدم أمي في الشفاء هو تعرضها لمشكلات صحية أخرى جراء التقاطها فيروساً في المستشفى ضرب رئتيها، ما أدى إلى وضعها على آلة الأوكسجين للتنفس".
لا تخفي هذه الشابة المناضلة والمكافحة أن ما حصل معها خلال الشهرين الماضيين يصعب وصفه، وما يريحها اليوم بعد كل هذه المصائب، هو أن الأطباء طمأنوها إلى أن وضع والدتها مستقر وإلى تحسن، ويأملون أن تخرج قريباً من المستشفى.

وما حال شريك حياتها الشرطي في قوى الأمن؟
تغيّرت حياة هذه العائلة الصغيرة رأساً على عقب مع تفجيرات القاع المفاجئة. الدركي الشاب جورج لا يزال في المنزل يخضع للعلاج الفيزيائي ويستخدم العكازات لتدبير أموره قدر المستطاع، وهو يتحضر لعملية تركيب "بروتيز" لرجله في مرحلة لاحقة. تقول كارين إن "نمط حياتنا تبدّل، إذ اضطررنا إلى نقل سكننا الى بيروت بعدما كنا نسكن في القاع. ونقيم اليوم عند أحد أقارب جورج في الأشرفيه موقتاً، وأبحث عن شقة نعيش فيها باستقلالية". أمام هذا الواقع، تشعر الزوجة الصلبة بأن المسؤوليات كثيرة "انهمرت عليّ من كل الإتجاهات، وليس عندي شقيق بل شقيقة وحيدة تصغرني بست سنوات، هي في الـ18 من عمرها، وفي سنتها الجامعية الأولى تتخصص في إدارة الأعمال، وأنا أهتم بأمي التي لا تتجاوز الـ47 عاماً، ومرافقتها باستمرار إلى المستشفى لإكمال علاجها، وأعتني بطفلتي المعوقة، إلى مسؤوليات البيت وغير ذلك".
وإذا سألت كارين ماذا تتوقع في حياتها بعد كل الذي مر عليها؟ تجيبك مبتسمة: "الأسوأ حصل في حياتي ولن يكون هناك أسوأ... ومع كل ذلك اشكر ربي على كل شيء ولتكن مشيئته، إيماني فيه قوي وثابت، وما أتمناه هو أن تتعافى والدتي وتتكلل عملية جورج بالنجاح كي يخف ثقل الألم علينا ونشعر باستقرار وبأقل قدر من المعاناة".

المصدر: "النهار"