أين نجحت النسبية في الانتخابات النيابية؟ طرح هذا السؤال ضروري جداً والجواب عنه ضروري أكثر بعدما صار في نظر كثيرين داخل "شعوب" لبنان وفي أوساط قادتها وسياسييها "السحر" الذي يقضي على "اللعنة" التي أصابت اللبنانيين فأوقعت بلادهم في حروب دامت نيّفاً و15 سنة، ولا تزال تهدّد بإيقاعهم في حروب أخرى أكثر ضراوة.
الجواب يشير الى أنها نجحت في دول العالم الأول ليس اقتصادياً فحسب، بل سياسياً وثقافياً وحضارياً وقانونياً وديموقراطياً أيضاً. ويعني ذلك أن نجاحها ارتبط بوجود دولة حقيقية تطبّق الدستور والقوانين على شعوبها دونما تمييز بينهم، وتمتلك وحدها قرار السلم والحرب، وتمارس وحدها العنف باسم القانون حفاظاً على الأمن والاستقرار، وتذهب الى الحرب بقرارها وحدها دفاعاً عن الكيان والشعب. ويعني أيضاً أن نجاحها ارتبط بارتكاز الحياة السياسية على الاحزاب الوطنية. وهذه تسعى في حال وصولها الى الحكم الى تطبيق سياسات ترى أنها من مصالح الشعب كله أو معظمه من دون أي تمييز. ويعني ثالثاً أن نجاحها ارتبط بالحرية الحقيقية التي لا ينص عليها الدستور كما في العالم الثالث بل يكفل ممارستها وحمايتها من أي اعتداء. ويعني رابعاً أن نجاحها ارتبط بوحدة شعبها سواء كان من "أصل" واحد أي قومية واحدة ودين واحد أو متنوّع القوميات والأديان والمذاهب.
فهل تتوافر في دولة لبنان ونظامها وممارساتها وفي غياب وحدة شعبها الذي صار "شعوباً" بعدما ظنّ كل منها أنه صار أمّة، وفي لا مسؤولية زعماء هذه "الشعوب" وسياسييها وتركيزهم على مصالحهم أولاً ووقوعهم إرادياً في مستنقع الفساد؟ هل تتوافر المقوّمات التي تؤهل لبنان لاعتماد قانون انتخابات نيابية على قاعدة النسبية يسمح بقيام مجلس نواب يمثل فعلاً الشعب (الغائب) وطموحاته؟ والجواب هو طبعاً كلّا. بل هل هناك دولة في لبنان؟ والجواب هو طبعاً كلّا. هناك هيكل دولة مؤسساتها الدستورية معطّل بعضها بالشغور وبعضها بالإقفال وبعضها بالعجز عن الانتاج وبعضها بالشلل وبعضها بعدم القدرة على توفير الأمن والأمان والحياة الكريمة والحرة للناس.
واذا أقنعت "العناية الالهية" المسيحية والمسلمة والسنّية والشيعية، على رغم أنها واحدة أساساً في كل الكتب السماوية، أبطال "الشعوب" اللبنانية وسياسيّيها من كل "الأوزان" بقانون انتخاب نسبي، فهل يوصل ذلك مجلساً نيابياً يمثّل فعلاً الناس في ظل غياب كل أسباب نجاح النسبية في العالم الأول. علماً أن النسبية الأخيرة ليست كلها حسنات. فلها سيئات قليلة، وخصوصاً في الدول الحديثة الانضمام الى العالم الأول التي تكثر فيها الأحزاب، أبرزها عدم الاستقرار السياسي وتحديداً عدم الاستقرار الحكومي.
في اختصار قانون الانتخاب النسبي أو الأكثري مهمٌ كل منهما، لكن الأكثر أهمية منهما توافر العوامل التي شُرحت في القسم الأول من "الموقف هذا النهار" اليوم وأمران آخران. أولهما تقسيم الدوائر الانتخابية. وثانيهما العمل الجاد لمنع التزوير سواء بالممارسة الفعلية أو بضغوط المال والطوائف أو بتواطؤ كل جزء من الدولة مع شعبه أو زعيمه أو في إيصاله الى موقعه حماية لمصالحه.
واذا كان لا بد من انتخابات، وهي لا بد منها بل ضرورية، على ما تبقى من الدولة العمل لتأمين الحد الأدنى انتخابياً لإنتاج مجلس لا يكرّس فيديرالية الطوائف والمذاهب في البلاد ولاحقاً انقسامها، ولا يوفّر فرصة لأي أكثرية كي تهضم حقوق أي أقلية. ولا يهم هنا إذا كان القانون نسبياً أو أكثرياً. علماً أنني كمواطن من أنصار الأكثرية والدائرة الفردية ولاحقاً من أنصار مجلس نواب منتخب من غير قيد طائفي ومذهبي وإتني ومجلس شيوخ منتخب على أسس طائفية ومذهبية. كما من أنصار أن تتكوّن السلطة التشريعية منهما معاً على أن لا يعطّل ذلك ذهاب البلاد الى الدولة المدنية اللاطائفية. وعلماً أيضاً أن الدائرة الفردية بقانون أكثري لا تنصف المظلومين اذا انطلق تقسيمها من مصالح زعامات لا من مصلحة عامة. وكي لا يبقى الكلام تنظيراً أعطي دائرة قضاء زغرتا - الزاوية وأنا منها مثلاً. فنوابها الثلاثة زغرتاويون في حين أن ناخبي الزاوية (القضاء) أكثرية. وعندما اقترح صديق في كتاب له قبل نحو سنتين قانون انتخاب بدائرة فردية لم يجعل زغرتا دائرة بنائب أو دائرتين والقضاء دائرة أو اثنتين، بل قسّم الدائرة كلها الى ثلاثة دوائر في كل منها جزء من زغرتا مفسحاً في المجال أمام بقاء التمثيل الزغرتاوي للقضاء كله.