أولاً: في البدء كان الحوار..
كما كانت الكلمة هي البدء، فالحوار هذه الأيام عند المسؤولين والسياسيين وجميع اللبنانيين هو البدء، كلّما ادلهمّ خطبٌ وعصفت مصيبة بالوطن، يتداعون للحوار، ويوهمون الناس أنّ مجرد جلوسهم على طاولة الحوار هو الترياق الأحيا.فبمجرد أن يقبل بعض القياديين الحزبيين ،الذين يصولون ويجولون في لبنان والمنطقة ،أن يجلسوا مع أقرانهم اللبنانيين المسالمين، فهذه تضحية عظيمة، ونعمة تستوجب الحمد، كذلك فإنّ انعقاد الطاولة يبقى مرتهنا بمزاج الرئيس بري ووضعه الصحي، وموائمة موقفه مع موقف حزب الله، ولا ننسى موافقة القيادات المتنافرة معظم الوقت، إلاّ أنّهم، وبتوفيق الباري عزّ وجلّ، يجتمعون، ويتحاورون ،ولكن، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى.
ثانياً: المصالح الوطنية هي التي تحفظ الأوطان..
كان التحليل الراسخ لقيام دولة الاستقلال (بما فيها التحليل اليساري) يرى أنّ تحالفاً ضمنياً، وغير معلن، قام بين أقطاب الإقطاع السياسي (الفئة من السياسيين الذين كانوا يملكون الأرض سابقا، وعوّضوا عن ذلك بالمناصب النيابية) والطبقة البورجوازية التجارية- المالية، التي تهيمن على قطاع الخدمات ،المهيمن على الاقتصاد بأسره، وكانت تجمع هاتين الفئتين : الإقطاع والتّجار، مصلحة "وطنية" واحدة: رعاية الدولة وحُسن سير مؤسساتها وخدماتها الإنمائية والأمنية، وكانت الطبقة التجارية- المالية تُؤمّن "الرشوة" اللازمة للسياسيين المتنفذين، نظير عدم الإكثار من التشريعات والضرائب، بما يُوفّر لهذه الطبقة التجارية، مناخاً ملائما لنُموّها وتراكم أرباحها، وقد استقرّت معادلة "المصلحة الوطنية" على قسمة مشروعة ومعلنة: البرلمان للاقطاع السياسي والإدارة للطبقة البورجوازية، مع الحفاظ الدائم على مصالح الدولة العليا، والاحترام الكامل لدستورها وسيادتها.
ثالثاً: المخاطر المحدقة، اليوم، بمصالح الدولة العليا..
مع ذوال الإقطاع السياسي القديم، واضمحلال فعاليته، ونمو إقطاع جديد متوحش ومُتغوّل ( من الغولة الأسطورية التي تأكل ولا تشبع) لا يحسب سوى حساب منافعه الفردية، ودخول عامل جديد في اللعبة السياسية اللبنانية،حزب الله حيثُ يُطبق على مفاصلها، ويفرض تطلّعاته الإقليمية، وطموحاته الداخلية المنفلتة من كلّ قيد، ممّا يجعل انتظار معجزات خلاصية وإنقاذية على يد طاولة الحوار ضرباً من الجنون، فهي في أحسن الأحوال: طاولة تقطيع الوقت عند البعض، (طالما يجني الأرباح الصافية)، وهي كسبُ الوقت عند بعضٍ آخر ( بانتظار مجريات الحرب السورية)، وهي عند الجميع: ذرُّ الرماد في العيون، العيونُ التي لم تُصب بالعمى حتى الآن، وهي نادرة على كلّ حال، أمّا مصالح الدولة العليا فقد رموها وراء ظهورهم منذ زمنٍ بعيد، ولم تبق سوى مصالحهم الفردية والعائلية،، وحتى المصالح الطائفية والمذهبية نبذوها وراء ظهورهم، مع استحضارها من حينٍ لآخر، للتعمية والتضليل ليس إلاّ، أما سيدُ المواقف بلا منازع، فهو الفساد، وحليفه: جمع المال والثروات، ولا بأس في تزيين الواقع المر بالمهرجانات الصيفية، وعشتم وعاش لبنان.