تمهيد:
بعيداً عن المصالح الشخصية والحزبية والوطنية والقومية، ألم تتعب حضرة الجنرال من "شرنقة" الرئاسة التي حبست ذاتك داخلها لأكثر من ستة وعشرين شهرا؟ حتى أصبحت يا حضرة الجنرال "عبد الرئاسة".مع أنّ تكوينك النفسي العسكري والسياسي، مضافا إليه تجارب الحكم والنفي، يفترضان  أن تنزع نحو "الحرية"، لا الخضوع لنزوة عابرة (تبدو صعبة المنال) . والعبد إذ يختار العبودية يكون قد اختار الخضوع، وينصبُّ اختياره هذا على الجزء اللاإنساني من إنسانيته، الإنسان الحر، إذا وُجد في موقف اضطهاد يختار الثورة، العبد حر في أن يثور، الحرية ليست مفهوماً نظريا غيبياً، إنّها تعريفُ الإنسان وحقيقته، وهؤلاء الذين يقبلون الخضوع "أنصاف بشر" كما يقول سارتر.
أولاً: لماذا الذُّل والخضوع؟
لماذا يرتضي رجل دولة الذل والمهانة في سبيل السعي وراء منصب زائل؟ لم يبق أحد في هذا البلد (عدا الصهر وجوقة المنتفعين) لم يعترض أو ينتقد أو يسخر من مواصلة الجنرال عون للسباق الرئاسي"بمن فيهم حكيم معراب"، فلماذا اختيار الذل والخضوع بدل الثورة؟ بدل الاضطلاع بالمسؤولية الأدبية والوطنية، والاضطلاع هذا يعني الثورة على استمرار هذا الوضع، الثورة هنا تعني الحرية، كان نيتشه يقول أنّ "نُبل العبد في ثورته"، ونعلم أنّ نيتشه كان يعتمد القسمة الثُنائية في البشر: النبيل والخسيس، والخسيس يتحول إلى نبيل في ثورته، والنبيل يتحول إلى خسيس بخضوعه، والاختيار يتضمن عادة الآلام والمصاعب، تخلّى حضرة الجنرال عن السعي للرئاسة بموقف نبيل، يُحسب فيما بعد في ميزان حسناتك، وعندنا قولٌ قديم يذهب إلى أنّ طالب الولاية لا يُولّى، فلعلّ "الرئاسة" إذ تعزُف عنها تأتيك طائعة مُيسّرة، فمحاولات الجمع  بين النُّبل والخساسة غالبا ما تبوء بالفشل، لأنّها محكومة "بسوء النيّة"، وتؤول في الغالب إلى "التحجُّر " في ماهية الذات، وهذه حالُكم ،للأسف ،حضرة الجنرال.
ثانياً: مثال تاريخي في الترفُّع .
في التاريخ الإسلامي (وكل تاريخ) أمثلة ساطعة في "الترفُّع " ونبذ الولاية والامرة، فقد أمر الحجّاج أن لا يؤمّ(يُصلّي ) بالكوفة إلاّ عربيٌّ ، وكان يحيى بن وثّاب يؤمُّ قومه بني أسد، وهو مولىً لهم، فقالوا: اعتزل. فقال : ليس عن مثلي نهى، أنا لاحقٌ بالعرب. فأبوا ؛ فأتى الحجاج، فقال: من هذا؟ فقالوا، يحيى بن وثاب. قال: ماله؟ قالوا: أمرت أن لا يؤمّ إلاّ عربيٌّ، فنحّاهُ قومه. فقال: ليس عن مثل هذا نهيت، يُصلّي بهم، قال: فصلّى بهم الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء. ثمّ قال: اطلبوا إماماً غيري؛ إنّما أردتُ أن لا تستذلّوني، فامّا إذ صار الأمرُ إليّ، فأنا اؤمُّكم ؟ لا ولا كرامة.
االامرُ إليك يا حضرة الجنرال،، فإذا كنت مختلفاً عن هذه الطبقة السياسية الفاسدة، وأنت رجل الإصلاح! فقل لهم: فأنا أرأسكم؟ لا ولا كرامة.