لافت أن ترتفع الأعلام التركية في مناطق بذاتها، من لبنان، ومن ضمنها المخيمات الفلسطينية، التي تعمق بموقفها المغزى المستخلص. فلقد "حيّا" سنّة لبنان "انتصار" الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بأكثر مما يتطلب إفشال الانقلاب على حكمه: بايعوه، أو بايعوا تركيا، بما لم يبايعوا به سوى مصر جمال عبد الناصر، والملك فيصل وياسر عرفات، وما وزعوه بين حافظ الأسد وصدام حسين، وفق ظروف المكان والزمان.
في كل هذه الحالات، تماهى اللبنانيون في مواجهاتهم السياسية، قبل زمن الحروب، مع قيادات عربية، وفي مرة وحيدة مع الجنرال ديغول، الذي رُفعت صوره في الطريق الجديدة، أواخر الستينات، بينما رُفعت صور الملك فيصل في الجميزة. ولقد عكس ذلك إنتماءً لملاذ سياسي، عربي حاضن، ليس المجال اليوم لمحاكمة صوابه وظروفه، وإن اقتضت الواقعية الإقرار بأنه حمل في غالب الأزمان، حداً كبيراً من النكاية السياسية (الحلف الثلاثي ومناوئوه).
لا يختلف اليوم عن الأمس. فرفع الأعلام التركية، ومن جمهور محدد، يقرب من إشهار انشداد لحظوي رداً على طرف آخر، حزبي يحتكر بقوة السلاح تمثيل طائفة بعينها، يجاهر بانتمائه وولائه لإيران، ويغضن يأسا من "قوة العروبة" وفاعلية دورها، ورهاناً في وجه الهيمنة الفارسية، على بيروت وبغداد ودمشق، وصنعاء (سابقا)، وفق ما جاهرت به طهران.
اتساع "الفرحة التركية" في لبنان، يترجم البحث لدى الطائفة المعنية عن معادل لطهران في المستويين الداخلي والاقليمي، ما يعاند "لبنان أولاً" الذي رفعه التيار السياسي الأكبر بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وما يجعله مبهماً ومشوشاً لدى الناظر اليه، لا سيما اللبناني المسيحي الذي يجد، إذا ما تلفت حوله، أن شركاءه في الوطن، موزعون بين طهران الشيعية وأنقرة السُنية، ومعها، وقبلها الرياض. وكما يردد سياسي صديق: صار المسيحي مضطرا الى البحث عن أصغر من لبنان الذي نعرف، أي الكانتونات، فيما المسلم مشدود الى أكبر من هذا اللبنان.
الخاسر الأكبر، هو حشد 14 آذار 2005، الذي طمأنه الى انتصار لبنان السيد المستقل، جمهور عريض، ولد "تيار المستقبل" من رحمه وتميز بأنه عابر للطوائف.
من السهل تفهم مؤيدي فشل الانقلاب، من زاوية رفضهم ضرب الديموقراطية في تركيا، لكن ما عبّر عنه البعض، في الشارع اللبناني، وعلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، أوحى إحياءً لمذهبية، تهدد أولا عبور "تيار المستقبل" كل الطوائف، ويحض ثانيا على أهمية إيقاظ 14 آذار، كبوتقة جامعة زخمها الأساسي من هذا التيار، ولا ترى سوى لبنان أولاً، كيفما تقلبت الظروف. فما بين 14 آذار ومبادئ "المستقبل" علاقة جدلية، وحدها تعيد الاعتبار للهوية الوطنية.
في مرحلة تتطلب المزيد من تصليب الموقف الـ 14 آذاري المتهاوي، تصبح السقطات السياسية أكثر إيلاماً... وأثلاماً.

 

راشد فايد