رغم أنّ وزير خارجية فرنسا جان مارك إيرولت سأل خلال لقاءاته في بيروت عن غاز لبنان، ورغم إشارات استفسارية مماثلة ورَدت إلى لبنان عمّا تنوي حكومته فعله تجاه هذا الملف، يؤكّد خبراء عدم وجود أيّ مؤشر يعتدّ به ومستقى من داخل بيئات القرارات العالمية السياسية أو ذات الصِّلة بالطاقة، يوضح أنّ هناك اهتماماً جوهرياً مستجدّاً في الخارج بالغاز والنفط اللبنانيين.
لم تتوافر معلومة واحدة موثقة ومستجدّة تدلّ على أنّ موقف العالم من غاز لبنان تغيّر، وذلك بالمقدار الذي يُشجّع داخلياً على الانتقال من مرحلة تجميد البحث فيه الى إعادة تحريكه جدياً.

بل على العكس، يسود لدى خبراء لديهم صفات استشارية مع شركات نفط عالمية، افتراضٌ علمي يقول إنّ الاهتمام الدولي بغاز لبنان في هذه المرحلة، تراجع، نظراً إلى وفرة عروض الغاز ولأنّ سوقه العالمي يواجه انخفاضاً.

وحتى يبقى نقاش ملف الغاز ضمن منطقه العلمي والسياسي والاقتصادي، يجدر التذكير بمعطيات أساسية تتحكّم في فتح هذا الملف أو إقفاله على السواء:

أولاً - أيّ بداية عملية وجدية تتوخى تحريك ملف الغاز لها مفتاح أساس وهو «ترسيم الحدود البحرية اللبنانية الإسرائيلية». وهذا الترسيم هدفه «تنظيم الشراكة» بين بيروت وتل أبيب في مجال بيع غازهما، حتى لو كان شكل هذه الشراكة ملتوياً وغير مباشر مثل تكليف شركات أجنبية بتوقيع عقود متزامنة بينها وبين لبنان وإسرائيل كلّ على حدة.

ولكنّ مشكلة لبنان أنه سيواجه مطلباً إسرائيلياً شرطياً وهو أن يوقّع مع هذه الشركات عقوداً مشابهة لتلك التي وقّعتها اسرائيل. وتل أبيب لن تسمح من زاوية تجارية لبيروت أن تمنح الشركات التي تنظّم شراكة لبنان - إسرائيل في بيع غازهما، امتيازات تُضعف موقف المفاوض الإسرائيلي معها.

وأبعد من ذلك، هل إنّ لبنان جاهز فعلاً لشراكة غير مباشرة مع إسرائيل؟ إذا كانت الإجابة لا، لماذا كلّ هذا الضجيج غير الجدي عن إطلاق ورشة المسح والتنقيب؟

وإذا كان الجواب نعم، وعلى طريقة القول إنّ لبنان سينفّذ ترسيماً تقنياً وليس سياسياً بين حدود منطقته الاقتصادية البحرية الخالصة وحدود المنطقة الإسرائيلية البحرية الخالصة؛ فمَن هي الجهة السياسية التي ستُشرف على هذا الترسيم. الجواب البديهي هو الأمم المتحدة التي يُؤمل منها كما ترغب بيروت القيام بترسيم تقني بحري مع إسرائيل، يشبه الترسيم البرّي الخاص بالخط الازرق.

لكنّ الأمم المتحدة تعلن أنها لن تقوم بهذه المهمة، بحجّة أنه لم يسبق لها أن رسّمت حدوداً بحريّة بين أيّ دولتين في العالم؛ بمعنى آخر إنّ الأمم المتحدة تطرح نفسها بأنها «جهة ليست ذات اختصاص» في هذا النوع من النزاعات.

سؤال آخر يطرح نفسه، وهو هل يقبل «حزب الله» بحلّ مماثل لملف الغاز ينطوي على شراكة مع إسرائيل بغض النظر عن واجهاتها التنفيذية. مرة اخرى قد تتكرّر مع الحزب مستقبلاً، قضية مشابهة لتلك التي أثارتها في صفوفه قضية توقيعه تشريعات مجلس النواب في شأن مكافحة تبييض الأموال. إذ إنه اكتشف آنذاك أنه وقّع تشريعات تستهدفه وجعلته في مواجهة مع المصارف اللبنانية.

هذه المرة، يجدر بالحزب التنبّه الى أنّ دفتر شروط التلزيم اللبناني للغاز الذي يُشرّعه تصويت مجلس النواب عليه، يمنح الشركات الملزمة المسح والتنقيب، ليس فقط جنّة ضرائبية وإعفاءً من ضريبة القيمة المضافة، بل صلاحيات تمكنها من إدارة قطاع الغاز اللبناني وفق «مفهوم التوحيد» الذي يعني عملياً إيكال الشركات مهمة إدارة مناجم الغاز والنفط استخراجاً وبيعاً وتوزيع حصص عائداتها المالية لإسرائيل ولبنان.

يجدر التذكير في هذا المجال بأنّ اقتراح مساعد وزير الخارجية الاميركية لشؤون الطاقة والنفط والغاز آموس هوكشتاين في شأن البلوكات اللبنانية المشترَكة مع إسرائيل يوصي باعتماد «مبدأ التوحيد»، أيّ أن تستثمر شركات عالمية الغاز الموجود في هذه الحقول المشترَكة، وتحديد الحصص والنسب لإسرائيل ولبنان، وبالتالي توزيع الأرباح.

ويعني التجسيد العملي لمبدأ التوحيد، الآتي:

أ- طريق فتح ملف الغاز عملياً يبدأ من ترسيم الحدود البحرية بين المنطقتين الاقتصاديتين الخالصتين اللبنانية والإسرائيلية.

ب- هدف الترسيم التقني للحدود البحريّة، هو تحديد الحصص والنسب بين لبنان وإسرائيل وتوزيع المراديد المالية عليهما، وتقوم بهذه المهمة الشركات الأجنبية الملزمة.

ثانياً- كلّ دول العالم تعتمد في صياغة دفتر التلزيم لغازها، مبدأ المرحلتين المتعاقبتين لا المتلازمتين: تتضمّن المرحلة الأولى حصراً إجراء عملية المسح. وتتضمّن الثانية عمليّتَي التنقيب والاستخراج. وسبب هذا الفصل الزمني بين المرحلتين مقصود تجارياً، ذلك أنّ «المسح» لا يُظهر على نحوٍ نهائي نسبة منسوب الغاز، بل يُظهر احتمالات وجوده مع نسبة خطأ غير قليلة، فيما عملية التنقيب تؤكّد نسبة وجوده ما يسمح ببدء عملية الاستخراج.

اللافت في هذا المجال أنّ لبنان وحده دون سواه من دول العالم صاغَ دفتر شروط يعتمد في المرحلة الأولى المسح والتنقيب أيضاً، وفي الثانية الاستخراج. وهذا الأمر ضدّ مصلحة البلد، لأنّه يمنح الشركات فرصة التخلّي عن المرحلة الثانية (الاستخراج)، إذا تبيّن لها في المرحلة الأولى (التي يضمنها لبنان «عملية التنقيب») أنّ منسوب الغاز ضئيل. وهذا السلوك اللبناني يترك علامات استفهام عن سبب إبرام دفاتر شروط التلزيم على هذا النحو!؟

ثالثاً- ليس هناك مصطلح اسمه غاز لبنان، بل المصطلح الصحيح هو دور لبنان بالنفط والغاز في المتوسط. بكلام أكثر دقة: دور لبنان داخل التركيبة الدولية ذات الصِّلة بالغاز والنفط في شرق المتوسط.

وكدلالة على ما تقدّم، يجدر التنبّه الى أنّ لبنان لا يملك مصفاة نفط على شواطئه أو أيّ منشأة تسييل غاز؛ وعليه فهو لو دخل عملية استخراج غازه بغية تصديره إلى الأسواق العالمية، فسيكون محكوماً بالذهاب الى واحد من مكانين يضمّان منشآت مصافي وتسييل غاز، وهما قبرص ومصر.

وحتى يصل غاز لبنان الى مصر عليه عبور المياه الإقليمية الإسرائيلية، ولو اختار قبرص فسيصل الى منشأة تسييل تملك إسرائيل أسهماً فيها مع الإيطاليين والأميركيين والقبارصة. وضمن الظروف الراهنة، تمرّ خيارات تصدير لبنان لغازه في عنق زجاجة إنشاء سلم بارد اقتصادي مع إسرائيل، فهل لبنان جاهز لذلك قبل بقية العرب، وحتى يقبل «حزب الله»؟

تجدر الاشارة في هذه الجزيئة الى أنّ بيروت لطالما سمعت نصيحة من الأميركيين تقول «استعجلوا في استخراج الغاز قبل أن يسرقه الإسرائيليون».

وكانت تل أبيب أبلغت واشنطن وفق محادثة ديبلوماسية قديمة وصلت إلى بيروت بأنها «تستعجل استخراج الغاز قبل أن تحدث تطوّرات مأسوية في منطقتنا غير المستقرّة». وكلّ همّ إسرائيل هو استعجال «بناء كيان متوسطي للغاز» يشارك فيه الروس لاحقاً، بهدف تنظيم عملية إيصال نفط المشرق المتوسطي الى أوروبا. ولكنّ السؤال هل ستقبل طهران بتشكّل هذا الكيان الخاص بتصدير الغاز الى أوروبا من دون لحظ حصّتها فيه؟

وكيف سيتعاطى لبنان مع اعتراض العامل الاستراتيجي الإيراني لحظة نشوئه في حال ذهبت بيروت الى خيار الانضمام إلى الكيان المتوسطي للغاز؟
وإزاء كلّ المعطيات الآنفة، يبقى السؤال: هل هذه أسئلة سابقة لأوانها، أم انها جديرة بالاهتمام منذ الآن حتى لا تصبح قنابل قابلة للتفجّر داخلياً قريباً؟ وهل هذه الأسئلة تظهر أنّ الكلام الداخلي الجديد عن بدء فتح ملف الغاز ليس سوى غيمة صيف في سماء السجال الداخلي السياسي؟

أليس مطلوباً عقد حوار وطني داخلي حول موضوع الغاز ومستقبله، لتحديد رؤية لبنانية استراتيجية وجامعة له، حتى لا تتحوّل النعمة الى نقمة، خصوصاً أنّ هذا الموضوع سياسي إقليمي ومحلّ صراع دولي، ولا يمكن لبيروت أن تتعاطى معه بذهنية أنّه مجرّد قضية تلزيمات تجارية؟
 
ناصر شرارة: الجمهورية