تمهيد: حريٌ بنا أن نُذكّر من ما زال على الإسلام، ويشهد هذه الأيام موجة التكفير وقتل الأنفس المحرّمة بالمئات والآلاف ، أن يتعرّف على رأي الفرق الإسلامية الثلاث: الشيعة والسّنة والخوارج من التكفير والقتل، فالتكفير الذي يجرّ على الأمة ما لا يحصى من الجرائم والمخازي، هو باب استحلال الدماء والأموال والفروج. أولاً: عند الشيعة: موقف علي بن أبي طالب.. مع أنّ علىّاً لم يعرف معنى التفرقة في الإسلام، ولم يخطر بباله أنّه سيكون يوما ما رأس فرقة "الشيعة" وإمامهم وهاديهم وجدُّ مهديهم، إلاّ أنّه ترك أبرز المواقف وأوضحها في إدانة التكفير والابتعاد عنه، فغداة معركة الجمل التي دارت بينه وبين عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير وانتهت بظفره، سُئل عليٌ عن أصحاب الجمل : أمُشركون هم؟ فقال: من الشرك فرّوا. قال: فمُنافقون هم؟ قال: إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قال فما هم: قال: إخواننا بغوا علينا. ومرّ علي بقتلى الجمل فقال: اللهمّ اغفر لنا ولهم، ومعه محمد بن أبي بكر وعمّار بن ياسر؛ فقال أحدهما لصاحبه: أما تسمع ما يقول! قال: اسكت لا يزيدك.

ونُقل عن عبدالله بن رباح عن عمار قال: لا تقولوا : كفر أهل الشام ، ولكن قولوا: فسقوا وظلموا. وفي مقام آخر قال: إنّ قوما زعموا أنّ البغي كان منّا عليهم، وزعمنا أنّه منهم علينا، وإنّما اقتتلنا على البغي لا على التكفير. وعن أبي بكر بن أبي شيبة: أول ما تكلمت به الخوارج يوم الجمل قالوا: وكيف أحلّ لنا دماءهم وحرّم علينا أموالهم! فقال علي: هي السُّنةُ في أهل القبلة، قالوا: ما ندري ما هذا؟

قال: هذه عائشة رأسُ القوم، أتتساهمون عليها؟ قالوا: سبحان الله! أُمنا ،قال: فهي حرام؟ قالوا نعم، قال: فإنّه يحرُمُ من أبنائها مايحرُم منها. ثانياً: عند أهل السّنة..موقف لعمر بن عبد العزيز.. وكان عمر بن عبد العزيز، أبعد الناس عن التفرقة، وأقرب الناس إلى الوحدة ولمّ الشّعث، حتى عدّهُ البعض خامس الخلفاء الراشدين، وكفاهُ فخرا أنّه أمر بمنع لعن علي بن أبي طالب على المنابر. وقد كان له موقف واضح من بائقة التكفير

في ردّه على شوذب الخارجي، الذي بادره بالقول عندما سأل عن سبب خروجه عليه، فقال شوذب: والله ما نقمنا عليك في سيرتك وعدلك، ولكن بيننا وبينك امرٌ إن اعطيتناه فنحن منك وأنت منّا، قال عمر: وماهو: قال: رأيناك خالفت أهل بيتك وسمّيتها مظالم. وسلكت غير طريقهم، فإن زعمت أنّك على هدى وهم على ضلال فالعنهم وابرأ منهم. فتكلم عمر فقال: إنّي سائلكما عن أمرٍ، فاصدُقاني مبلغ علمكما، قالا نعم، ذلك أنّ شوذب كان برفقته رجل من بني شيبان، فقال عمر: أخبراني عن أبي بكر وعمر، أليسا من أسلافكما وتشهدان لهما بالنجاة؟ قالا اللهمّ نعم، قال: فهل علمتم أنّ أبا بكر ،حين قُبض رسول الله(ص) فارتدّت العرب قاتلهم، فسفك الدماء ،وأخذ الأموال، وسبى الذراري؟ قالا، نعم، قال: فهل علمتم أنّ عمر قام بعد أبي بكر، فردّ تلك السبايا إلى عشائرها؟ قالا،نعم، قال: فهل برئ عمر من أبي بكر أو تبرؤن أنتم من واحدٍ منهما؟ قالا ،لا، قال: فأخبراني عن أهل النهروان ،اليسوا من صالحي أسلافكم وممن تشهدون لهم بالنجاة؟ قالا، نعم، فهل تعلمون أنّ أهل الكوفة حين خرجوا كفّوا أيديهم ،فلم يسفكوا دما، ولم يُخيفوا آمناً، ولم يأخذوا مالا؟ قالا، نعم، قال: فهل علمتم أنّ أهل البصرة حين خرجوا مع مسعر بن فُديك، استعرضوا الناس يقتلونهم، ولقوا عبدالله بن خباب صاحب رسول الله(ص) فقتلوه وقتلوا جاريته، ثمّ قتلوا النساء والأطفال، حتى جعلوا يُلقونهن في قدور الأقط وهي تفور، قالا، قد كان ذلك، قال: فهل برئ أهل الكوفة من أهل البصرة، قالا، لا، قال: فهل تبرؤن من إحدى الفئتين؟ قالا ،لا ، فقال: كيف وسعكم أن تولّيتم أبا بكر وعمر، وتولّى كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، وتولّيتم أهل الكوفة والبصرة، وتولّى بعضهم بعضا، وقد اختلفوا في أعظم الأشياء: في الدماء والفروج والأموال ، ولا يسعُني إلا لعنُ أهل بيتي والتبرؤ منهم، أو رأيت لعن أهل الذنوب فريضة مفروضة لا بدّ منها، فإن كان ذلك فمتى عهدك بلعن فرعون وقد قال: أنا ربكم الأعلى، قال: ما أذكر أني لعنته، فقال عمر: ويحك! ايسعك ألاّ تلعن فرعون وهو أخبث الخلق، ولا يسعُني إلاّ أن ألعن أهل بيتي والبراءة منهم، ويحكم! إنّكم قومٌ جُهال، أردتم أمرا فاخطاتموه ، فأنتم ترُدّون على الناس ما قبل منهم رسول الله. بعثه الله إليهم وهم عبدة اوثان، فدعاهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا عبده ورسوله، فمن قال ذلك حقن بذلك دمه، وأحرز ماله، ووجبت حرمتُه، وأمن به عند رسول الله، وكان أسوة المسلمين، وكان حسابه على الله.

فقال شوذب: ما سمعتُ كاليوم أحداً أبين حُجّةً ، ولا أقرب مأخذاً، وأشهد أنّك على الحقّ، وأنّي بريئٌ ممّن برئ منك. أردنا بهذه الاقتباسات الطويلة إنارة بعض ما استغلق على هذه الأمة، التي لم يكتف أهلها بضرب الرقاب، بل يستعملون آخر ما توصلت إليه التقنيات العسكرية، وأخسّ الأساليب واحقرها جبنا، وهو التفجير" الاستشهادي" الذي لا يطال إلاّ الأبرياء، والساعين في مناكب الأرض للرزق والحياة، فيُقتلون على تهمة التكفير، ومخالفة شرع الله، وهم أضلّ الناس وأكفرهم.