منذ أن صوَّت الشعب البريطاني قبل أسبوع في استفتاء على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، بعد تغلب حملة "بريكزيت" على جناح "البقاء"، خلق ذلك الاستفتاء اضطرابات شديدة، حيث تركز اهتمام الرأي العام بشكل متزايد على أحد الخيارات المتطرفة: هل يمكنهم التراجع عن ذلك الخيار؟

 

وقال رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، يوم الاثنين، إنه يعتبر الاستفتاء ملزما وإن"عملية تنفيذ القرار بأفضل السبل المتاحة لا بد أن تبدأ الآن". ولكنه قال أيضًا إنه سوف يترك هذه العملية لخليفته على رئاسة مجلس وزراء البلاد، بعد استقالته المتوقعة في تشرين الأول المقبل. ويفتح ذلك التصريح النافذة لفترة من الوقت، تستمر حتى بداية أيلول المقبل، على الأقل، يمكن لبريطانيا خلالها اتخاذ القرار بعدم المضي قدما في عملية الانسحاب من الاتحاد، وتفادي عواقب ذلك الوخيمة من جانب أوروبا. إذا ما أطلق رئيس الوزراء البريطاني الجديد عملية المغادرة، يكون أمام بريطانيا عامان بعد ذلك للتفاوض حول شروط الطلاق مع الاتحاد الأوروبي. وفي حين أن قواعد الاتحاد الأوروبي تقول إن العضوية تنقضي تلقائيا في نهاية تلك الفترة، يمكن لبريطانيا، من الناحية النظرية، استغلال تلك الفترة من الوقت في التفاوض حول خطة بديلة.

* الخيار الأول: عدم المضي قدما في عملية الانفصال

لا يُعتبر هذا الاستفتاء ملزما من الناحية القانونية. ولن تبدأ عملية المغادرة حتى يقوم رئيس الوزراء البريطاني بتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة لعام 2009 التي تحكم علاقة العضو بجسم الاتحاد الأوروبي. ويمكن لرئيس أو رئيسة الوزراء، من الناحية النظرية، الاستمرار وكأن التصويت لم يحدث.

ولقد تسبب كاميرون بالفعل في التأخير عندما رفض تفعيل المادة 50 بنفسه. ومن بين أكثر المرشحين المحتملين لتولي منصب رئاسة الوزراء من حزب المحافظين، هناك تيريزا ماي، وهي تعارض مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، وهناك أيضًا بوريس جونسون، وهو من مؤيدي المغادرة، الذي بدأ في التراجع، حيث تعهد يوم الاثنين بأن التغييرات المزمعة"لن تكون مندفعة أو سريعة".

يعارض أغلب أعضاء البرلمان البريطاني مغادرة الاتحاد الأوروبي، وقد يؤيدون رئيس الوزراء الذي رفض تفعيل المادة 50 من قانون الاتحاد. ولكن ذلك من شأنه أن يكون أقرب ما يكون لنقض إرادة 17.4 مليون مواطن بريطاني من الذين صوتوا لصالح مغادرة الاتحاد، وهي خطوة شديدة التطرف في الدولة التي تتفاخر بقيمها الديمقراطية العريقة. كما أن تلك الخطوة من شأنها المخاطرة بتأجيج القوى السياسية الأساسية التي أدت إلى فوز أنصار"المغادرة"، حيث ارتفاع الغضب الشعبي، وفقدان الثقة في المؤسسات الحكومية وتعرضها للمساءلة، والاعتقاد بوجود تلاعب خفي في النظام العام في البلاد.

ومن الصعوبة توقع ردود فعل المؤيدين للخروج البريطان"ي إذا ما تجاهلت الحكومة نتائج الاستفتاء، ولكن مثل هذه الخطوة تعزز من موقف الأصوات المتطرفة في الحكومة. ومن شأن السياسة البريطانية، التي تشهد اضطرابات هائلة ، أن تواجه مستقبلا مجهولا، تماما مثل الذي ينتظر النواب الذين يستعدون لإعادة الانتخاب.

* الخيار الثاني: الفيتو الاسكوتلندي

قال مجلس اللوردات في تقرير صادر عنه في نيسان إن أي قرار للمغادرة من الاتحاد الأوروبي تتعين موافقة برلمان اسكوتلندا، وآيرلندا الشمالية، وويلز عليه.

يؤيد الناخبون في ويلز مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، ويهيمن على برلمان آيرلندا الشمالية الحزب الذي يؤيد مغادرة الاتحاد. ولكن الناخب الاسكوتلندي يعارض وبصورة ساحقة مغادرة الاتحاد، وكذلك هو موقف الحزب الوطني الاسكوتلندي الحاكم، الذي تعهد باتخاذ ما يلزم من إجراءات للبقاء في الكتلة الأوروبية.

اقترحت نيكولا ستورجين، أول رئيسة لوزراء اسكوتلندا، أن برلمان بلادها قد يمتنع عن الموافقة، مما يشعل أزمة دستورية في البلاد. وهذا بدوره يمكن أن يكون فرصة بالنسبة للزعماء الذين يرغبون في تفادي الخروج البريطاني من الاتحاد. ويمكن لرئيس الوزراء المقبل أن يقول للناخبين إنه يرغب في تنفيذ إرادتهم، ولكن مغادرة الاتحاد الأوروبي أمر مستحيل من غير الموافقة الاسكوتلندية. وهذا يوفر لمحة بسيطة لمزيد من الشرعية السياسية بأكثر من مجرد تجاهل الاستفتاء. لكن إذا كان رئيس الوزراء البريطاني المقبل عازمًا على متابعة تنفيذ الخروج البريطاني، يمكن للبرلمان البريطاني إلغاء القانون الذي يمنح اسكوتلندا حق النقض (الفيتو). وقد تستجيب نيكولا ستيرجون على ذلك بمحاولة إجراء استفتاء جديد على الاستقلال الاسكوتلندي عن المملكة المتحدة، وهو الأمر الذي هددت بالفعل بتنفيذه إذا ما غادرت بريطانيا الاتحاد الأوروبي.

* الخيار الثالث: الإعادة

كان الناخبون الدنماركيون قاب قوسين أو أدنى، في عام 1992، من رفض الاستفتاء على انضمام بلادهم إلى واحدة من المعاهدات المؤسسة للاتحاد الأوروبي. وبعد 11 شهرًا، وبعد موجة من الدبلوماسية المضنية، أجرت الدنمارك استفتاء جديدًا حول المعاهدة نفسها، الذي وافق فيه الناخبون بأغلبية معتبرة. وتكشفت سيناريوهات مماثلة عام 2001، ومرة أخرى في عام 2008، عندما رفض الناخبون الآيرلنديون معاهدات الاتحاد الأوروبي قبل تبنيها في الاستفتاءات الثانية في السنوات اللاحقة.

فهل بإمكان الناخبين البريطانيين"عكس" أنفسهم على هذا النحو؟ في يوم الاثنين، وبعد مرور أربعة أيام من التصويت على مغادرة الاتحاد، ظهر التماس على الإنترنت يدعو إلى"إعادة" الاستفتاء، الذي حصد 3.8 مليون توقيع حتى الآن.

ولكن ليس هناك من سبب وجيه يدعو للاعتقاد أن الاستفتاء الثاني، إن قُدر له الانعقاد اليوم، سوف يأتي بنتائج مختلفة. وفي حين أن عددًا من المواطنين البريطانيين قالوا على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي إنهم آسفون على تصويتهم لمغادرة الاتحاد، فإن استطلاعات الرأي تشير إلى أنهم أقلية ضئيلة من مجموع الناخبين المؤيدين. وهناك استطلاع للرأي أجرته مؤسسة"كومريس" البريطانية لأبحاث السوق، خلص إلى أن نسبة 1 في المائة من المصوتين لصالح"المغادرة" كانوا غير سعداء بنتائج الاستفتاء. (ولقد فاز مؤيدو المغادرة بفارق 4 نقاط مئوية، أي 52 في المائة مقابل 48 في المائة لصالح معسكر البقاء).

يمكن للزعماء البريطانيين تبرير الاستفتاء الثاني حول المسألة من خلال تأمين حفنة من الامتيازات الخاصة من الاتحاد الأوروبي، مثل السماح لبريطانيا بوضع حد أقصى للهجرة. وذلك المسار هو ما اعتمده الزعماء في الدنمارك وآيرلندا في إقناع الناخبين في بلادهم للموافقة على الاستفتاءات الثانية، التي كانوا قد رفضوها أول الأمر.

بوريس جونسون، الذي قال يوم الاثنين إن بريطانيا كانت"جزءًا من أوروبا ولسوف تظل دائمًا كذلك"، لمح قبل التصويت إلى أنه قد يتابع هذه الاستراتيجية. وكتب جونسون يقول في مقالة افتتاحية لصحيفة التلغراف في شهر آذار:"هناك سبيل وحيدة للحصول على التغيير الذي ننشده، وهو التصويت من أجل الذهاب. إن مجمل تاريخ الاتحاد الأوروبي يظهر أنهم يستمعون فعلا للمواطنين عندما يقولون لا".

ومن شأن التصويت الثاني أن يسمح للسياسيين بالزعم أنهم قد نفذوا إرادة الناخبين وواجهوا الاتحاد الأوروبي، تجنبًا للغضب الشعبي والتداعيات الاقتصادية والدبلوماسية للخروج البريطاني من عضوية الاتحاد. والزعماء الأوروبيون، رغم ذلك، قد لا يكونون حريصين على المضي في ذلك المسار. فإذا ما تمكنت أي دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد من تأمين نوع خاص من الامتيازات عن طريق التهديد بمغادرة الاتحاد، فذلك من شأنه تقويض مقدرة الاتحاد على تنفيذ السياسات الأوروبية واسعة النطاق. كما أنه يفسح المجال للدول الأخرى بالاتحاد لأن تقوم بدور الجبان عن طريق استفتاءات الخروج، وهي لعبة جدًا خطيرة قد تؤدي بكل سهولة إلى كارثة محققة.

* الخيار الرابع: الخروج الاسمي فقط

تمنح المادة 50 من قانون الاتحاد الأوروبي الدولة العازمة على الانسحاب عامين كاملين للتفاوض بشأن علاقاتها مع الاتحاد بعد المغادرة حول قضايا مثل التجارة والهجرة. لكن ماذا لو أن بريطانيا قد أبرمت عددًا من الصفقات التي حافظت وبدرجة كبيرة على الوضع الراهن، ولكن من دون العضوية الرسمية في الاتحاد الأوروبي؟

يبدو هذا أيضًا من الأمور التي تشغل بال جونسون. ففي مقالة افتتاحية نشرت في جريدة"تلغراف" يوم الأحد، تعهد جونسون بأن تحافظ بريطانيا على معاهدات حرية التجارة والحركة مع أوروبا. وكما مزح رافائيل بير، الكاتب في صحيفة "غارديان"، مغردا على"تويتر":"وهو الوضع المعروف أيضًا باسم عضوية الاتحاد الأوروبي!". وأحد النماذج الماثلة على ذلك هي النرويج، وهي ليست من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ولكن تربطها اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي في"السوق الواحدة" واتفاقية الحدود المفتوحة.

يؤكد أنصار حملة المغادرة على هدفين أساسيين: تقليل حجم الهجرة، وإخراج بريطانيا من البيروقراطية الأوروبية. وفي حين أن ترتيبات النموذج النرويجي يمكنها، من الناحية النظرية، الحد من مقدار الهجرة، فإنها قد تؤدي إلى ازدياد الخضوع البريطاني لصناع السياسات الأوروبية.

وإذا ما تخيرت بريطانيا ولوج هذا الطريق"فلن يكون لها صوت أو وجود عند اتخاذ القرارات الأوروبية الحاسمة التي تؤثر ومن دون شك على الحياة اليومية للمواطنين البريطانيين"، كما حذر اسبن بارث ايدي الوزير الأسبق لخارجية النرويج في العام الماضي. واتفاق مثل هذا من شأنه أن يتطلب من بريطانيا الاستمرار في سداد رسوم العضوية للاتحاد، وهي الرسوم التي تعهد أنصار حملة المغادرة باستعادتها للخزانة البريطانية.

(الشرق الأوسط)