تمهيد: الميليشيا أو التنظيم المسلح، أو الجماعة المسلّحة ، جيشٌ تشكله عادة قوات غير نظامية من مواطنين يعملون عادة بأسلوب حرب العصابات، بخلاف مقاتلي الجيش النظامي.وغالبا ما تكون هذه التنظيمات في صراع دائم مع السلطات الشرعية، ويشتد الصراع ليصبح داميا عندما تبسط الميليشيا سيطرتها على منطقة سكنية أو جغرافية محددة في إطار جهوي أو ديني.
أولا: ميليشيات العالم العربي، ولبنان تحديدا..
نشأت في تاريخ العرب المعاصر تنظيمات مسلحة تابعة لأحزاب، وفي مقدمها الجهاز السري الذي نشأ في حضن "الإخوان المسلمين" في مصر، حيث قام بعمليات اغتيال وتخريب، ثم ظهرت من رحم الإخوان تنظيمات مسلحة كجماعة التكفير والهجرة في مصر والإنقاذ في الجزائر، والقاعدة في كافة أرجاء العالم العربي والإسلامي. أمّا عندنا في لبنان ،فقد وفدت إليه في أربعينيات القرن الماضي تنظيمات حزبية ذات نزعة قومية باستلهام فاشيستي أو ستاليني ،فكان حزب الكتائب والحزب القومي السوري، وفرع حزب البعث العربي، وظلت فكرة الميليشيا المسلحة ضامرة في عقيدة هذه الأحزاب، وهذا عائد ربما بالدرجة الأولى، إلى رسوخ عقيدة الدولة الوطنية ذات السيادة الكاملة، وجاءت التجربة الشهابية لبناء دولة تعتمد الإنماء وبناء المؤسسات خير دليل على ذلك، إلاّ أنّ الميليشيا اقتحمت لبنان من حيث لا يحتسب ،بعد اتفاق القاهرة الذي أقرّ للمقاومة الفلسطينية بالتواجد على أرضٍ محددة في جنوب لبنان، وما لبثت أن توسّعت لتشمل البلد بمعظمه بعد أحداث أيلول ١٩٧٠ في الأردن، وخروج المقاتلين الفلسطينيين إلى سوريا، ومن ثمّ إلى وجهتهم النهائية لبنان، فنشأت معضلة "التداخل" الصعبة بين الدولة و"الثورة"، وما لبثت هذه التنظيمات الفلسطينية المسلحة أن ولّدت نقيضها الميليشيات اللبنانية، وفي المقدمة والطليعة: القوات اللبنانية الخارجة من رحم الكتائب بقيادة بشير الجميل، ونمور الأحرار بقيادة داني شمعون، وما لبثت أن طغت كاريزمية الراحل بشير الجميل، قبل انتخابه رئيساً للجمهورية، على سائر التنظيمات بلغة الميليشيات السائدة حينذاك( أي السلاح)، وكان النائب الحالي السيد أنطوان زهرا، أحد قادة تنظيم القوات البارزين بجانب بشير الجميل، ويظهر في شرائط مُصورة للجميل وهو يلقي خُطبه النارية.
ثانياً: ميليشيا القوات: أول خروج على منطق الدولة..
كان الفلسطينيون يعتبرون وجودهم على الأرض اللبنانية وجوداً طارئا بانتظار تحرير فلسطين بالحدّ الأقصى ، أو إجبار إسرائيل على الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعياً للشعب الفلسطيني، وبالتالي التفاوض معهم بالحد الأدنى، وهذا ما حصل في نهاية المطاف، وكانت اتفاقية أوسلو عام ١٩٩٢، أمّا بذرة الميليشيات "الوطنية" التي زرعتها قوات الكتائب ونمور الأحرار فقد نمت وترعرعت، ولم يتمكن اتفاق الطائف من اجتثاث جذورها، فتربّع قادتُها "اليساريون"  على كراسي الحكم، وفي مقدمهم الأستاذ نبيه بري والزعيم الجنبلاطي ، بعد أن أدخلوا عناصر ميليشياتهم في أجهزة الدولة الأمنية والإدارية، وساد حكم الوصاية السورية بعد أن تمّ التضييق على القادة المسيحيين، فنُفي الجنرال عون وسُجن قائد القوات سمير جعجع، وإذ نصّ اتفاق الطائف على حلّ الميليشيات، إلاّ أنّ ميليشيا "وطنية" جديدة وافدة بدعم إيراني غير محدود، وما لبثت أن انتزعت شرعية وجودها تحت مظلة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. إلاّ أنّ تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية حفظ في ذاكرته أنّ أول من شرّع الخروج على منطق الدولة كانت الأحزاب "اليمينية" ،كما كانت توصفُ تلك الأيام، وهي الكتائب والأحرار، ولطالما برّر قادتُها تلك الأيام، بأنّنا حملنا السلاح لأنّ الدولة تخلّت عن دورها في مقارعة الوجود الفلسطيني المسلّح، فكان لا بدّ لنا في ظلّ "الدولة العاجزة" أن نقوم بدورها، فنتصدّى للوجود الغريب المسلح، وما لبثت أن ولّدت هذه الدعاوى تنظيمات مقابلة "يسارية" لا تُعدُّ ولا تُحصى، منها ما هو مستقل عن الهيمنة السورية ،وينعم برعاية ياسر عرفات، ومنها ما يرتع في أحضان حافظ الأسد، ودارت رحى الحرب الأهلية على المقاتلين والمواطنين لمدة تربو على خمسة عشر عاماً.
ثالثاً: أنطوان زهرا والحنين إلى عصر الميليشيات..
ينفرد حزب الله منذ تحرير الجنوب عام ٢٠٠٠ ، وانسحاب إسرائيل، ومن ثمّ انسحاب القوات السورية عام ٢٠٠٥، بدور ميليشياوي مميز، تجلت مظاهره في أحداث أيار عام ٢٠٠٧ باجتياح قسم كبير من بيروت الغربية، ومحاصرة منزل الزعيم الجنبلاطي، والدخول الواسع في أتون الحرب السورية، وتتركز معظم الاحتجاجات على دور الحزب، باعتباره منظمة مسلّحة خارجة عن أطر الدولة الدستورية، إلاّ أن الحزب يستعيد مقولات القائد بشير الجميل، مع تحويرها وتجديدها ما أمكن ذلك، فالمقاومة بعُدّتها وعديدها لا تطمئن على وجودها وسلامتها و"سلاحها"، في ظل دولة عاجزة  ومرتبكة ، معظم أركانها إمّا عملاء أو جبناء، أو سماسرة، تتلهى بهم مصالح السفارات الغربية والأميركية، مقولة شرعنة الميليشيات المسيحية عام ١٩٧٦،، فهل يطمح النائب زهرا بظهوره حاملا السلاح إلى بعثها من جديد، لتستوي المعادلة اللبنانية المختلّة اليوم: ميليشيات إسلامية مسلحة، مقابل ميليشيات مسيحية مسلحة، وعودٌ على بدء، فتأخذ الميليشيات ما تبقّى من هذه الدولة" الخربانة" تحت أقدامها، في ظل الفراغ الرئاسي واحتدام الصراع الإقليمي، طبعا مع الاحتفاظ بالقول" لا سمح الله"، ذلك أنّه لم يبق بين يدي اللبنانيين سوى الدعاء والابتهال.