في المسيرة الأولى ليوم القدس العالمي في طهران قبل 37 عاما، تجمعنا في السفارة الفلسطينية التي كانت قبل عام السفارة الإسرائيلية. العالم كله كان قد تغير. كانت مشاعرنا ملتهبة ونحن نقف تحت علم فلسطين في قلب طهران. أخيرا نعيش حلم جمال عبد الناصر بقيام التحالف العربي الإيراني على طريق تحرير فلسطين. شعارات ذلك الزمن المجيد كانت كثيرة لكن اكثر ما طارت بنا إلى القدس وحلقت فوقها منها: «إسرائيل سرطان يجب اقتلاعه»، «الموت لإسرائيل - الموت لأميركا». «لا سنية ولا شيعية».

لم يطل زمن الفرح. يوما بعد يوم تدرج الحزن وأخذت جميع الوافدين من العرب إلى طهران أسئلة كثيرة. كانت البداية في تغير المعادلة، فالعلاقة لم تعد بين ثورة وثورة، ولا بين ثوار وثوار، أصبحت بين دولة لها جذورها في التاريخ وثورة فلسطينية كان ماوتسي تونغ قد قال عنها «إنها أصعب ثورة في التاريخ».

تبين للجميع من المراقبين أن «الختيار» ياسر عرفات لم يعد مرحّبا به في طهران كما في البدايات. لم يشأ أن يضع «بيضه» كله في «السلة» الإيرانية. ثم اشتعلت الحرب العراقية الإيرانية، فأدركنا سنة بعد سنة أن «الحواجز» تتزايد على طريق الشراكة العربية الإيرانية، وأن فلسطين والقدس، تبتعدان يوما بعد يوم عن آمالنا وطموحاتنا. حتى إذا جاء رفض الأمام الخميني إيقاف الحرب مع العراق أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان وضرب منظمة التحرير الفلسطينية عام 1982، تأكدنا مرة أخرى أن كل ما بُني كان على أحلام. 

أصبحت المهمة أن لا تتحول الحرب مع العراق إلى عداء عربي إيراني، وكانت المهمة صعبة جدا.

في قلب هذا الانهيار، وقف الرئيس حافظ الأسد موقفا مغايرا. لكن موقفه وهو «الداهية» لم يكن لإعادة اللحمة العربية مع إيران وإنما:

- استثمار الخلافات للحصول على أقصى ما يمكنه من المساعدات والدعم المالي من إيران والعرب، وقد نجح نجاحا باهرا في ذلك دون السقوط في «الشباك» الإيرانية.

- العمل على ضرب غريمه الرئيس صدام حسين في العراق، حتى ولو سقط العراق كله تحت وطأة الحرب بدلا من العمل على وقف الحرب.

- القضاء على غريمه أبو عمار بعد أن نجح الإسرائيليون في ضرب منظمة التحرير بعد غزو لبنان.

لم يتوقف تدحرج «الانشقاق العربي الإيراني، حتى تحول كما هو اليوم إلى مواجهات بعضها دموي، بين كل من ليس من الممانعة... طبعا أي قراءة كما حدث منذ وفاة الإمام الخميني وتسلم آية الله علي خامنئي لهذه العلاقات ولما آلت إليه قضية فلسطين، لن تكون موضوعية لأن لكل طرف رؤيته ومواقفه ودوافعه وأهدافه. لكن بلا شك إن شعار «لا سنية ولا شيعية»، قد نحر، ويكاد يكون الضحية الكبرى للعلاقات العربية الإيرانية.

مبدأ تصدير الثورة، تحول مع الزمن إلى سلاح مذهبي قاتل.

هذا التحول نشأ من إرادة المرشد خامنئي في تحويل كل نقطة مشتعلة في المنطقة إلى ملف يمكنه التفاوض به وعليه مع الولايات المتحدة الأميركية، ومع دول المنطقة العربية خصوصا المملكة العربية السعودية، بهذا الهجوم الخامنئي الذي من أهدافه الدفاع عن إيران بعيدا عن حدودها، جعل مقولة «الهلال الشيعي» واقعا يمكن زرع الخوف والرفض عليه. الأسوأ جرى إخراج الأحقاد التاريخية القائمة على أساطير وقصص مرفوضة من العاقلين من الجهتين جملة وتفصيلا.

اليوم قد يخرج الملايين في طهران، للهتاف دعما للشعب الفلسطيني. لكن كل هذه الهتافات ستتبخّر في فضاء طهران، في حين ستستمر الحرب تحصد في سوريا الآلاف، لأنها في جانب منها لا يقبل المرشد خامنئي سقوط بشار الأسد، ولأنه تحت الدعوة للآخرين بعدم التدخل، تدخل بكل ما يملك ضد جزء أساسي من الشعب السوري (للأسف وباللغة المذهبية هو سني ينظر إلى الحرس الثوري جيشا شيعيا غازيا). وهو يتدخل في العراق وجنراله قاسم سليماني يقود فيه الحرب إلى جانب الأميركيين، في وقت يدفع فيه «سنة الأنبار» ثمنها من أرواحهم وأملاكهم. 

في اليمن تقف إيران إلى جانب الحوثيين وتمدهم بكل المساعدات دون النظر إلى كلفتها اليمنية وفي الإقليم، علما أنه ممنوع دوليا على إيران الإمساك بالقرار ولو سياسيا بباب المندب فكيف عسكريا؟ أيضا وبعيدا عن خطأ القرار بسحب جنسية عن مواطن فإن تهديد الجنرال قاسم سليماني «بإحراق» البحرين هو صبّ للزيت على النار المذهبية، المرفوضة جُملة وتفصيلا.

في يوم القدس، تصالحت إسرائيل وتركيا وازدادت بذلك عزلة «حماس» التي أنكرتها إيران بالثلاثة ،لأنها رفضت البقاء تحت جناحها فعاقبتها كما عاقبت سابقا حركة «فتح» وأبو عمار ومعهما الشعب الفلسطيني.

أمام هذه الكوارث، وأمام تحول إسرائيل إلى أقوى دولة في المنطقة، لا يبقى سوى الأمل بأن تقف الحروب الإيرانية العربية بكل صورها، لأنه مهما تحولت إيران إلى قوة إقليمية كبرى فإن «خاصرتها» العربية ستبقى ضعيفة ومكشوفة، وفي ذلك خسارة كبرى لها وللجميع ما عدا إسرائيل، الرابحة الكبرى.