هو ليس اعتداءً على لبنان كما وصفته الحكومة اللبنانية . الارجح انه غزو خارجي جديد للاراضي اللبنانية. ولعل الانتحاريين الثمانية الذي قتلوا في الهجمة المزدوجة الاولى على بلدة القاع الحدودية، هم طليعة لمجموعات وخلايا قرر تنظيم "داعش" ان يزج بها في حملته الجديدة على لبنان، بعدما ضاقت عليه السبل العراقية والسورية.
هؤلاء الثمانية الذي خرجوا في مجموعتين تحولتا بسرعة الى أشلاء بشرية، أثاروا صدمة وخلفوا حيرة: لماذا اختاروا هذا التوقيت الغريب لعمليتهم؟ خصوصاً وأنه لم يسبق لتنظيمهم الظلامي أن عمل تحت جنح الظلام، بل كان معظم عملياته، إن لم يكن جميعها، يتم تحت أشعة الشمس الحارقة وتحت أضواء الكاميرات اللامعة. وكيف انتقوا مساكن بلدة القاع بالذات لتكون هدفهم، من دون اي أهداف أخرى تقليدية، عسكرية كانت أو أمنية أو مسيحية أو شيعية..
لم تكن الصدفة وحدها هي التي جعلت حصيلة الضحايا المدنيين أقل من عدد الانتحاريين، ولا كانت الرحمة الالهية، التي لا تنفع في العادة مع ذاك التنظيم المتوحش. ثمة ما يفسح المجال  لتفسيرات عجيبة لتلك العملية "الانغماسية" الفريدة من نوعها، منها ان التنظيم كان في هجمته المزدوجة يجري "مناورة بالذخيرة الحية" يستطلع فيها قدراته وامكانات العدو، او ينظم عملية تخريج لدفعة جديدة من إنتحارييه الجدد، الذين خضعوا لدورات تدريبية نهايتها الطبيعية هي تمزيق اجسادهم وتفتيت اعضائهم.. او ربما كان يختبر نوعا جديدا من الاحزمة الناسفة او حتى صنفاً جديداً من المخدرات..                                                         "إنغماس" محير فعلاً، ربما لن يتضح تماماً قبل ان ينفذ داعش هجمته التالية، اذا كان التنظيم فعلا هو المنفذ، خصوصا وانه لم يعلن حتى اللحظة مسؤوليته عن عملية القاع المفاجئة في شكلها ومضمونها، ولم يكشف كما جرت العادة، أسماء المنفذين الذين اصبحوا الان في طريقهم الى "الجنة". المؤكد انه لن يعتمد السرية، ولن يخفي اي هوية. فالجميع يشهد بشفافيته وصراحته المتناهية.
لعل التنظيم يتريث فقط لكي يضلل اللبنانيين، ولكي يتسلى بمتابعة المواقف الكوميدية التي شهدها السيرك السياسي اللبناني على مدى الساعات الماضية، عندما بلغ التحليل لعملية القاع حدوداً لا تخطر في بال عاقل. ولا تشفي غليل أهالي تلك البلدة الحدودية المسيحية الذين لا يعرفون حتى الان ما إذا كانوا هدفاً فعلياً ام مجرد محطة عبور الى هدف آخر.
غموض داعش هو كما يبدو حتى الان، هدف بحد ذاته. وهو ما يثير الالتباس اللبناني، ويزرع المزيد من الشقاق، ولا يطمئن طبعاً البلدة الجريحة، التي حملت بشكل عفوي السلاح ولوحت به حتى كاد يصبح هو القضية.. لا سيما عندما استضافت النائب انطوان زهرا برشاشه القواتي القديم، أو عندما تحدثت عن الدولة والجيش والاجهزة الامنية باعتبارها سقفاً يغطي الجميع بما في ذلك الامن الذاتي، الذي لم يكن موضع جدال أصلا، ولا يمكن لأي بلدة حدودية، شرقية او شمالية او جنوبية، ان تدخل في مثل هذا الجدال الخارج عن أي أعراف وتقاليد لبنانية.
المهم ان صورة البلد إهتزت اكثر مما هي مهزوزة أصلاً، جراء تلك الضربة الموجعة والمستهجنة التي تلقاها من داعش.. حيث تنافس جناحا الحلبة الداخلية على إطلاق اشد المواقف اثارة للذهول، وإنقسم الرأي العام اللبناني بين فريق يريدها حرباً بلا هوادة مع التنظيم الذي تتفاداه دول أهم من لبنان، ذات شعوب ارقى وجيوش اقوى، وبين فريق لم يتورع حتى عن الدعوة الى تأييد تورط حزب الله في الحرب السورية.. وكلاهما يعبّر عن ثقة مطلقة بانه على حق وعلى طريق النصر.
الشرخ اللبناني كان فاضحاً. أما المفردات والرموز التي استخدمت في اليومين الماضيين فكانت من الاسباب التي تسلي داعش لكنها لا تحمي البلد مما هو آت.