النهار : مجموعات الانتحاريين تسللت من جرود عرسال استنفار واسع تحسباً لمواجهة تهديدات جديدة

 

 

لم يسبق للحكومة أو للقيادات العسكرية والامنية ان وضعت الرأي العام اللبناني في أجواء مشدودة تقتضي استنفاراً رسمياً وسياسياً وشعبيا في موازاة الاستنفار الامني الاستثنائي الحاصل منذ هجمات الارهابيين الانتحاريين على القاع، كما فعلت غداة هذه الهجمات أمس. وبدا واضحاً ان المسؤولية الرسمية سياسياً وأمنياً قد وضعت في ظل المعطيات والمعلومات المتجمعة لدى الاجهزة العسكرية والامنية أمام واقع شديد الدقة بل الخطورة يتعين معه بدء مرحلة تكيف مع قواعد جديدة من المواجهة القاسية مع انماط جديدة ومتغيرة تعتمدها التنظيمات والخلايا الارهابية في استهدافها للبنان، على ما كشفته المواجهات الاخيرة مع الانتحاريين الذين فجروا أنفسهم في استهداف القاع. هذه المعطيات والمعلومات جالت على نحو طارئ أمس بين ثلاثة اجتماعات اكتسبت طابعاً يكاد يقرب من حال طوارئ غير معلنة الاول في لقاء ضم وزير الداخلية نهاد المشنوق وقادة الاجهزة الامنية في مكتب قائد الجيش العماد جان قهوجي، والثاني في جلسة مجلس الوزراء التي تحولت جلسة امنية خالصة، والثالث في الاجتماع الامني الموسع الذي رأسه رئيس الوزراء تمام سلام مساء في السرايا الحكومية.
وعلمت "النهار" ان معلومات جرى تداولها في الاجتماعات الثلاثة ولا سيما منها الاجتماع الامني الموسع برئاسة سلام استندت الى معطيات الجيش الذي استبعد ان يكون الانتحاريون الثمانية الذين نفذوا تفجيرات القاع قد انطلقوا من مخيمات اللاجئين في مشاريع القاع والارجح انهم تسللوا الى القاع من جرود عرسال. وتبين ان الجيش عرف هويات سبعة منهم وهم سوريون وبينهم امرأة. كما استبعد الجيش ان تكون الهجمات الارهابية ردة فعل على اقدام بلدية القاع مع قوى الامن الداخلي على هدم منشآت اسمنتية اقامها اللاجئون داخل المخيمات واعتبرت المصادر العسكرية المعنية ان هذا الاحتمال ضئيل لان ردة الفعل لا تكون بهذا العدد من الانتحاريين الذين استهدفوا بلدة القاع. كما علمت "النهار" من مصادر أمنية أن الانتحاريين الذين دخلوا بلدة القاع هم مجندون جدد لم يكونوا سابقاً ضمن رصد الجهات المعنية وهم في إطار مجموعات يصل عدد كل منها الى 17 عضواً.
واسترعى الانتباه في البيان الصادر عن الاجتماع الامني في السرايا اشارته الى ان "المسؤولية الوطنية تقتضي تنبيه اللبنانيين الى المخاطر المحتملة وعدم استبعاد ان تكون هذه الجريمة الارهابية (في القاع) فاتحة لموجة من العمليات الارهابية في ظل معلومات تتولى الجهات الامنية متابعتها واتخاذ ما يلزم في شأنها ". واذ استبعد الوزير المشنوق أي علاقة لمخيمات اللاجئين بالهجمات على القاع، لم يستبعد ان يكون هناك مخطط لزعزعة الامن في لبنان وضرب الاستقرار. وقال العماد قهوجي لدى وصوله الى السرايا :"الاكيد ان تفجيرات القاع هي بداية مرحلة جديدة في عمل الارهابيين ولكن ما ليس أكيداً أن يكون هناك مخطط جديد". ولفت الى وجود امرأة بين الانتحاريين.

مجلس الوزراء
وفي جلسة مجلس الوزراء تحدث الرئيس سلام عن مواجهة لبنان شكلاً جديداً من أشكال الصراع مع الارهاب، موضحاً ان الاعتداء على القاع لم يكن مفاجئاً بذاته وان الاجهزة الامنية كانت حذرت من عمل يخطط له الارهابيون "لكن المفاجئ للجميع كان الاسلوب الذي اتبع في تنفيذه وعدد الانتحاريين الذين شاركوا فيه". وتخوّف من ان يكون ما جرى بداية لموجة من العمليات الارهابية في مناطق مختلفة، داعياً الى مواجهة هذا الواقع "بموقف وطني موحد ومتكامل فليس المطلوب استنفار طائفي أو مذهبي أو فئوي والا فاننا نكون وقعنا في الفخ الذي نصبه لنا الارهابيون".
وأبلغت مصادر وزارية "النهار" ان الموقف الذي أدلى به الرئيس سلام في مستهل الجلسة تحول الى موقف للحكومة صدر في البيان بعد الجلسة بما يعكس تبني كل مكونات الحكومة هذا البيان. وأفادت ان النقاط الاساسية للوزراء الذين توالوا على الكلام هي: تهيّب الجميع للوضع العام، وجود اقتناع بإن لبنان دخل مرحلة أمنية جديدة مختلفة عما سبقها، إجماع على مواجهة الارهاب وعلى ضرورة ضبط الحدود وتجمّعات اللاجئين مع محاذرة إعتبار اللاجئين كبش محرقة ووصمهم بالارهاب، التشديد على تعزيز الوضع الحكومي لمواجهة التطورات لإن أي إرتجاج أو تغيير في هذا الوضع يدخل البلاد في الفراغ المدمّر وليس الفراغ الدستوري وحده، ومقاربة احداث القاع مقاربة وطنية وليس مقاربة طائفية.وتقرر ان تبقى جلسات مجلس الوزراء مفتوحة مع الاشارة الى انتقادات سجلها عدد من الوزراء لغياب وزيريّ الدفاع والداخلية عن الجلسة وهما المعنيان أكثر من سواهما بها. ووصفت خلاصة ما انتهت اليه الجلسة بإنها تجاوزت كلمات الاستنكار الى الاستنفار والتأهب والمواجهة.
وفي سياق المداخلات، تمنى وزير العمل سجعان قزي أن يدعو الرئيس نبيه بري إستثنائياً الى إنعقاد إجتماع الحوار النيابي لقادة الصف الاول لكي يتخذوا موقفا موحدا في مواجهة الارهاب ومناشدة السعودية احياء الهبة المخصصة للجيش اللبناني الذي يحتاج إليها في هذه المرحلة الخطيرة,وتقليص عدد اللاجئين.

بري
وكشف الرئيس بري أمام زواره أمس ان معلومات وصلته في الايام الاخيرة تفيد ان مجموعات ارهابية تعد لعمليات وهجمات تفجير تستهدف شخصيات سياسية والجيش وقوة "اليونيفيل" في الجنوب وبعض المناطق وأنه ابلغ قيادة "اليونيفيل" هذه المعلومات لاتخاذ الاجراءات المطلوبة. وقال: "كما تمكن الجيش من ضبط عناصر ارهابية وتوقيف الذين يتبعون هذه المجموعات ثمة متابعة دقيقة لهذه المعلومات".
ورأى ان الهجمات الارهابية في القاع "تشكل منحى جديداً في استهداف اللبنانيين ولم يتمكن الارهابيون من تحقيق أي شيء على حدود الوطن السيادية وهم يحاولون اليوم ان يدخلوا الى حدود المجتمع اللبناني كلا الذي يجب ان يواجه الخطر الارهابي بالوحدة". واذ لاحظ ان "هناك من يعلن طروحات متطرفة وعصبية وفيديرالية وغيرها"، خلص الى أن القاع ليست المستهدفة وحدها بل كل لبنان، مشدداً على "ان المطلوب وحدة اللبنانيين في وجه هذا النوع من السموم التي تقتلنا جميعاً".

جعجع
في غضون ذلك، استمر رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع في رسم علامات شكوك حول الاهداف الحقيقية والنهائية للعمليات الارهابية في القاع اذ صرّح أمس لـ"النهار" بأن لا تفسير واضحاً بعد لهذا الاستهداف. لكنه أشاد بمجموعة عوامل أبرزها "اثبات الجيش جدارته واثبات قائده العماد قهوجي انه لا يهاب المرحلة التي يواجهها البلد، وبروز واقع الاحاطة الكبيرة للمسيحيين بالقاع كواقع داعم للجيش أو خط دفاع ثان حيث تدعو الحاجة". واعتبر ان تفجيرات القاع "لا تخيف وان كانت مؤلمة لانها لا توصل الى أي مكان".
اما في الواقع السياسي، فان جعجع استبعد ان تشكل التطورات الامنية على خطورتها حافزاً للدفع في اتجاه انتخاب رئيس للجمهورية، مشيراً في هذا السياق الى ان نتائج لقاء الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ووزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف "لم يترك مجالا للتفاؤل" في ضوء الذرائع الايرانية التي تخفي رغبة ايران في مقايضة الرئاسة اللبنانية ببقاء الرئيس السوري بشار الاسد. واعتبر في هذا السياق ان العماد ميشال عون "قد يكون آخر من تريده ايران وحزب الله رئيسا للجمهورية". 

القاع
اما على الصعيد الامني، فبدت القاع أمس تحت وطأة الاستنفار الواسع غداة موجتي التفجيرات الانتحارية وسط تكثيف الاجراءات العسكرية والامنية وعمليات التمشيط الواسعة التي قام بها الجيش الذي طلب انهاء الانتشار المسلح للاهالي بعدما بلغ ذروته مع توافد الكثير من ابناء القاع المقيمين في بيروت للدفاع عن بلدتهم، كما برزت ظاهرة خروج نساء مسلحات للمساهمة في التصدي للارهابيين. ومن المقرر ان تقيم البلدة اليوم جنازة جماعية لشهدائها الخمسة الذين سقطوا في عمليات التفجير الانتحارية الاثنين.

 

 

السفير : «صدمة القاع»: يقظة أمنية تفضح «العورات السياسية»

 

 

حبذا لو أن الحكومة ردّت على «غزوة القاع» بالاجتماع استثنائيا في البلدة الجريحة ـ بدلاً من زيارات الوزراء بالمفرّق ـ لكانت عوّضت، بالمشهد الجامع، عن الخلل في آدائها وإنتاجيتها، ولكانت وجّهت رسالة بليغة الى الإرهابيين بأن القاع تحوّلت بعد هجماتهم من بلدة تقع على أطراف الحدود والاهتمام الى عاصمة أخرى للبنان.
وحبذا لو أن الطبقة السياسية تعاملت مع الهجمة البربرية على القاع بما تستحقه من مسؤولية وطنية عابرة للمماحكات التقليدية وللأدبيات الممجوجة، لقدّمت نموذجاً راقياً عن السلوك المفترض انتهاجه في زمن الملمّات والتحديات، بدلاً من التكرار المملّ لمنطق متهافت، لم يعد قادراً على الصمود أمام حقائق الأرض وبلاغة الدم.
لقد أعادت صدمة «القاع» كشف ما يعتري الجسم اللبناني من نقاط ضعف سياسية ووطنية في مواجهة الإرهاب الذي يسعى الى استغلال الثغرات وانتهاز أنصاف الفرص، ليخرج من أوكاره كـ «الجرذان الشاردة»، على حد توصيف مصدر معني.
وإذا كانت المؤسسة العسكرية والقوى الأمنية قد نجحت حتى الآن في التخفيف من وطأة الانكشاف في الجهوزية السياسية للدولة، والتغطية على عورات دكاكينها المفتوحة، إلا أن المعالجة الميدانية على أهميتها وحيويتها لا تكفي وحدها، ما لم تكن مرفقة بمقاربة داخلية واحدة لمصادر الخطر ولسبل مواجهتها، وهو شرط لا يزال ناقصاً حتى الآن.
وبهذا المعنى، ليس مقبولاً أن يبقى التعاطي مع ملف النازحين السوريين ـ الذي بات عنصراً مؤثراً في الأمن القومي اللبناني ـ عرضة لكل هذه المزاجية النابعة من مصالح طائفية او سياسية او فئوية او مناطقية، فهذا يريد تجميعهم في مخيمات، وذاك يطالب بإبقائهم حيث هم، وآخر يتهمهم بإيواء الإرهابيين او إنتاجهم، ورابع يعتبرهم ضحايا للإرهاب، وخامس يدعو لترحيلهم الى سوريا، وسادس يدافع عن حقوقهم الإنسانية..
لقد حان الوقت لوقف هذا العبث، وتوحيد المقاربة الرسمية للتحدي اليومي الذي يمثّله الانتشار الكثيف للنازحين السوريين على امتداد الجغرافيا اللبنانية.
إن إفساح المجال امام تكاثر الاجتهادات، على المستوى الرسمي وتالياً الأهلي، قد يؤدي الى مظاهر فوضى عارمة سواء في السياسة او على الارض، لاسيما ان تفجيرات القاع أحيت بقوة الـ «فوبيا» من الوجود السوري، وهذا ما عكسته التدابير والضوابط المشددة التي اتخذتها بلدات وبلديات كثيرة خلال الساعات الاخيرة لتقييد حركة النازحين والحد من انفلاشهم، خشية من ان يكونوا مخترقين من قبل خلايا ارهابية.
وإذا كانت الاجراءات المتخذة مبررة، لتحصين المناطق التي يهددها الارهاب الاعمى، إلا انه يجدر التنبه في الوقت ذاته الى ان هناك خيطا رفيعا، لا يجوز قطعه، بين الضرروات الامنية وبين المبالغات في ردود الفعل التي قد تنطوي احيانا على نفحة عنصرية، سواء مقصودة او غير مقصودة.
مظهر آخر من مظاهر التفسخ، عبّرت عنه مداولات مجلس الوزراء أمس، حيث بدا ان لكل مكوّن من مكوّنات الحكومة «موّاله»، حتى اختلط الحابل بالنابل، وأنصار الجيش بالقوات الدولية، والنازحون بالارهاب، في ترجمة للصراع الداخلي على الخيارات السياسية المتعارضة، والتي وجدت في القاع متنفساً لها.
وفيما يُفترض بمجلس الوزراء ان يعتمد «إستراتيجية دفاعية» واحدة في مواجهة الارهاب، وهذا أضعف الإيمان، إذ به يتوزع بل «يتبعثر» خلال جلسته أمس بين من يقترح الاستعانة بمجلس الأمن ونشر قوات دولية على الحدود الشمالية والشرقية، وبين من يدعو الى إنشاء أنصار الجيش ويطلب انسحاب «حزب الله» من سوريا، وما الى ذلك من نظريات، قبل ان يأتي البيان الختامي ليغطي هذه التناقضات بقشرة رقيقة من الكلام المنمّق.
وما يدور في الحكومة هو في نهاية المطاف مرآة وصدى لما يجري خارجها من اشتباك سياسي مفتوح، كانت منابر شهر رمضان مسرحا إضافيا له.
وبرغم انه ثبت بالعين المجردة ان بلدة القاع المسيحية، الخالية من أي وجود لـ «حزب الله»، كانت هي المعنية مباشرة بالرسالة الإرهابية وليست مجرد صندوق بريد، فإن ذلك لم يمنع البعض من توظيف ما حصل في اللعبة المحلية الضيقة، عبر المسارعة الى تحميل الحزب المسؤولية عن استدراج الارهابيين الى الداخل اللبناني، بسبب تدخله العسكري في سوريا.
ولئن كان هذا النوع من النقاش يمكن تبريره في السابق، إلا ان تسارع الاحداث وتطور أنماط الاستهداف الارهابي، باتا يستوجبان «تعليق» العمل بالمناكفات التقليدية، واتخاذ قرار بمنع تجول ليس فقط النازحين وانما ايضا مظاهر الفتنة والتحريض التي تتخذ أشكالا عدة، لاسيما ان «غزوة القاع» تعبّر عن تحول غير مسبوق في نسق العمليات الارهابية، ينبغي ان يواكبه تعديل في الخطاب السياسي ووسائل الصمود والتصدي.
وحتى ذلك الحين، ينبغي استخلاص الدروس والعبر من اختبار القاع، لتحسين شروط المواجهة المتصاعدة مع الارهاب، وبالتالي لإقفال الفجوات التي يمكن ان يتسرب منها الانتحاريون. والاكيد، ان الجيش والقوى الامنية والمقاومة استفادوا من تجربة الاثنين الدامي في اتجاه سد الثغرات المكتشفة وتفعيل خطوط الدفاع، على قاعدة التكامل غير المعلن بين الادوار والمهام.
وفي مؤشر يعكس خطورة المرحلة، ابدى الاجتماع الامني الذي عُقد امس في السرايا برئاسة الرئيس تمام سلام تخوفه الصريح من ان تكون الجريمة الارهابية بحق بلدة القاع فاتحة لموجة من العمليات الارهابية، في ظل معلومات تتولى الجهات الامنية متابعتها واتخاذ ما يلزم في شأنها، مشيرا الى ان الاعتداء الذي استهدف القاع يشكل تحولا نوعيا في الحرب التي يشنها الارهاب الظلامي على لبنان.
وفي سياق متصل، كشف الرئيس نبيه بري امام زواره امس عن معلومات أمنية وصلته في الايام الماضية ومفادها ان مجموعات ارهابية تستعد للقيام بهجمات وتفجيرات تستهدف بعض المناطق وشخصيات لبنانية وقوات «اليونيفيل» في الجنوب، موضحا انه جرى ابلاغ القوات الدولية بهذه المعطيات حتى تتخذ جانب الحيطة والحذر.
ورأى بري ان «ما نواجهه اليوم من خطر ارهابي يتطلب توحيد صفوف اللبنانيين، فاذا لم نتمكن بعد من التفاهم على عدد من الملفات الخلافية، فإن علينا أقلّه التوحد في وجه هذا النوع من السم الذي يهددنا جميعا».
وعلى وقع المخاطر الامنية، قرر كل من «حزب الله» و «حركة أمل» إلغاء احتفالات إحياء ليلة القدر أمس، كما جرى الغاء عدد من الافطارات الرمضانية، فيما اتخذ الحزب، بالتعاون مع الجهات الامنية، تدابير مشددة في الضاحية ومناطق أخرى، لمنع تسلل الارهابيين.
وبينما تستمر التحقيقات لمعرفة هوية منفذي هجمات القاع، أوضح وزير الداخلية نهاد المشنوق ان اربعة منهم على الاقل أتوا من الداخل السوري، وليس من مخيمات النزوح.

 

 

الجمهورية : القاع تتحضّر لإقامة «عرس الشهداء»... و«معطيات مهمة» بيد الجيش

 

 

قلوب اللبنانيين تنبض مع القاع، تصلي لشهدائها والجرحى، وتواسي أم الشهيد والأب المفجوع. وتشد على أيدي اهلها الطيّبين الصامدين الذين كسروا بدماء أبنائهم عاصفة الجاهليين. وصمدوا. القاع الجريحة تتحضّر لإقامة مراسم العرس لتزفّ أبناءها الشهداء، ولإعلان قيامتها من جديد اقوى واصلب من كل العواصف، ولعل ما اصابها، اعاد تصويب البوصلة الداخلية نحو مكمن التهديد والخطر المحدق ليس بالقاع وحدها، بل بكل لبنان. القاع تنتظر، كما كل اللبنانيين، نتائج التحقيقات العسكرية التي بدأت حيال الهجوم الارهابي التي استهدفها. وبحسب تأكيدات مصادر عسكرية لـ»الجمهورية» فإنّ «هذه التحقيقات قد قطعت شوطاً مهماً، وهناك اعترافات وموقوفون وخيوط ومعطيات شديدة الاهمية في يد مخابرات الجيش، بالتوازي مع معلومات موثوقة على لسان مصادر أمنية بأنّ مخابرات الجيش قد تمكنت نهاية الاسبوع الماضي من إحباط مخطط ضخم، يتجلى بعمل إرهابي مزدوج، كان سيستهدف مرفقاً سياحياً مهماً في احدى ضواحي بيروت الشرقية، وقد تمّ إحباطه وتمّ توقيف شخصين على صِلة به».

لم تكن القاع بالأمس، مجرد بلدة لبنانية تتعرّض لهجوم ارهابي عابر، يضرب اهلها ويسقط منها شهداء وجرحى مثلها مثل اي بلدة او منطقة لبنانية استهدفها الارهاب، بل انّ رمزية تلك البلدة المسيحية بما تشكّله من نقطة التقاء وعنوان للعيش الواحد بين مختلف المكونات اللبنانية، وكذلك حجم العدوان الارهابي الذي تعرضت له، ونوعيته، بالكمّ الكبير من الانتحاريين والارهابيين الذي استهدفها بشكل غير مسبوق، صاغ رسالة الى كل لبنان وللمستويات السياسية والرسمية على اختلافها، بمضمون محدد مفاده: لا بدّ من قاعدة عمل جديدة وفاعلة في وجه الارهاب بكل عناوينه وما يتفرّع عنه، وبفاعلية شديدة داخل البيئة التي تشكل حضناً او ملاذاً له.

لقد تلقّت القاع عن لبنان الضربة الاولى والموجعة في أمنه واستقراره، وممّا لا شك فيه انّ ما حصل فتحَ على مرحلة جديدة، وصار من البديهي بل المُسلّم به، القول انّ ما بعد الهجوم الارهابي على القاع ليس كما قبله، ليس على مستوى هذه البلدة فحسب، بل على مستوى كل لبنان. حيث بدا بما لا يقبل أيّ شك انّ ما تعرضت له القاع تَمّت حياكته في «الغرَف السوداء» التي لطالما خطّطت وسَعت الى تخريب لبنان وتطويعه.

رسالة القاع، تؤكد للقاصي والداني انّ لبنان، وفي هذه المرحلة الجديدة التي تشهد مزيداً من الاشتعال في أزمات المنطقة، قد يكون في عين العاصفة اكثر من اي وقت مضى.

وتبعاً لذلك قد تكون تجليات الاستهداف متنوعة. وفق ما تجمع القراءات السياسية والامنية للهجوم الارهابي العنيف على القاع سواء من حيث الهجوم، او عدد الانتحاريين الذي لم يسبق ان استخدم في اية منطقة من سوريا الى العراق وليبيا والاردن وصولاً الى مصر واليمن.

والأساس في رسالة القاع انها ترسم خريطة طريق تحصين الداخل اللبناني وكيفية مواجهة الخطر الارهابي، كما يلي:

- اولاً، قاعدة العمل التي ينبغي ان تلتقي عليها كل المستويات الرسمية وكل القوى السياسية والعسكرية والامنية والشعبية، اجتثاث الارض، والحد من الخسائر مهما كان نوعها.

- ثانياً، ان تتحصّن الدولة، كل الدولة بكل مؤسساتها الرسمية وقواها السياسية، بالحد الادنى من القواسم المشتركة، لا سيما التشخيص الموحّد للمرض الذي يعانيه البلد وتحديد مكمن الخطر وتبيان مسبباته ونتائجة وكيفية مواجهته.

- ثالثاً، إحتضان الجيش فعلاً لا قولاً، من دون ان ننسى انه الهدف الاول للارهاب، وهذا يقتضي على الدولة توفير كل المقومات التي تمكّنه من إتمام مهمته في مكافحة الارهاب وحماية الحدود. وممّا لا شك فيه انّ كل الامور تبقى تحت السيطرة إن توافرت كل ظروف الحماية والدعم والتسليح للجيش.

- رابعاً، تجنّب مقاربة اي حدث ارهابي كالذي حصل في القاع، بخطاب سياسي ينمّ عن استمرار التناقض والاختلاف والانقسام الداخلي، فكل ذلك يشكّل فجوة كبيرة قد تسمح لهذا الارهاب بأن يتسلل الى الداخل بأمان اكثر ويصِل الى اهدافه بكل سهولة.

- خامساً، إنّ أيّ تحصين داخلي يَختلّ، واية محاولة للنأي بلبنان عن الخطر تبقى محكومة بالفشل إذا اقتصرت مواجهة الارهاب وخطره على العبارات الانشائية والتمنيات التي لا قيمة لها.

- سادساً، الخطر الاكبر على لبنان يتجلى في ظهور قوى محلية وكأنها مشاركة عن قصد او غير قصد، بتوطئة الارض للتصعيد الارهابي او مبررة له او حاضنة له. وبالتالي، بقدر ما تتكاتف القوى المحلية على اختلافها وتجتمع كلها تحت عنوان التحصين، بقدر ما تستطيع احتواء اي تصعيد، وتخفيف وطأة اي قطوع ارهابي وتجعله يمرّ بأقل الخسائر الممكنة.

- سابعاً، تطمين المسيحيين الى مصيرهم، وعلى وجه الخصوص تطمين مسيحيي المناطق الحدودية المحاذية لسوريا، فخوف هؤلاء يتزايد من ان يصيبهم ما أصاب المسيحيين في سوريا والعراق وسائر الدول المأزومة وتعاني من الارهاب الداعشي وأخواته. وبالتالي، باتوا في أمسّ الحاجة الى مظلّة أمان تحميهم، وعينهم على الدولة.

- ثامناً، إدخال الضوابط التي باتت ضرورية على مسألة النازحين السوريين، خصوصاً انّ هذا النزوح تَوسّع في لبنان بطريقة عشوائية، بل بطريقة سرطانية جعلته كالمرض الذي وصل الى مرحلة الانتشار بالجسم. وبالتالي، فإنّ العلاج يكون بجرعات تتناول كل الجسد، خصوصاً انّ التعامل معه بشكل مجتزأ او معالجته بالمسكنات سيؤدي حتماً الى موت المريض.

القاع... حذر... ومعزّون

وعاشت بلدة القاع امس، حالاً من الحذر والخوف من عمليات إنتحارية جديدة وخَلت شوارعها من المارّة إلّا في الحالات الضرورية، وغَصّت بالمعزّين من سياسيين ومواطنين، الذين قصَدوا صالون كنيسة البلدة لتقديم العزاء بالشهداء الخمسة الذين كان من المفترض تشييعهم أمس، غير أنّ الأوضاع الأمنية المستجدة أدّت إلى تأجيل التشييع إلى اليوم.

وتابعت الأجهزة الأمنية تحقيقاتها بالتوازي مع إجراءات ينفذها الجيش في البلدة، ومداهمات نفّذها فوج المجوقل في مشاريع القاع وداخل البلدة، بحثاً عن مطلوبين وانتحاريين دخلوا مع الثمانية الذين فجّروا أنفسهم.

وترافقت الإجراءات مع قصفٍ مدفعي وبراجمات الصواريخ للمسلّحين في جرود رأس بعلبك وتلال القاع، فيما سجّل انتشارٍ كثيف لعناصر من «حزب الله» في عدد من القرى والمدن البقاعية الحدودية ولا سيما المحيطة بالقاع.

مواكبة سياسية... وأمنية

وفرض الهجوم الارهابي مواكبة سياسية وأمنية حثيثة، حيث اتخذت إجراءات أمنية لافتة للانتباه في العديد من المناطق بدءاً من الضاحية الجنوبية وبيروت وصولاً الى البقاع والجنوب، حيث أفيد عن انتشار واسع للجيش اللبناني في مناطق سردة الوزاني، عين عرب، وطى الخيام، فأقام حواجز ثابتة ودوريات، ودقّق في الاوراق الثبوتية للنازحين.

وخصّص مجلس الوزراء جلسته امس، لبحث الخطوات الواجب اتخاذها. وعبّر المجلس عن اقصى حدود التضامن. فالمرحلة الجديدة من المواجهة مع الارهاب تستدعي تأجيل كل الملفات واعلان الاستنفار العام، حكومة ومؤسسات، للتصدي ودرء الاخطار.

وتحوّلت جلسة مجلس الوزراء من مالية الى امنية بامتياز، بدأت بدقيقة صمت حداداً على ارواح الشهداء، ثم أبدى كل وزير وجهة نظر فريقه السياسي وعرضَ المخاوف وقارب اساليب المواجهة. فكان التركيز على ضرورة ترك التدابير الامنية للاجهزة الشرعية وضبط وضع النزوح السوري الذي تشكّل مخاطره عاملاً أساسياً في هذه المواجهة.

وأبدى رئيس الحكومة تمام سلام مخاوفه من ان يكون لبنان دخل مرحلة جديدة من الاساليب الارهابية التي تستدعي رفع الجهوزية وتحصين الوحدة الداخلية والالتفاف حول الجيش والاجهزة الامنية.

وعلمت «الجمهورية» انّ وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس استنكر عملية زَجّ المخيمات السورية بما حصل، لكنه في المقابل دعا الى رفع الصوت لدى المجتمع الدولي من أجل تأمين مناطق آمنة لعودة النازحين. وسأل عن الصورة التي تظهر نائب «القوات اللبنانية» انطوان زهرا وهو يحمل السلاح بين أهالي القاع، ونوّه في المقابل بمواقف العميد شامل روكز.

وتحدث وزيرا «حزب الله» محمد فنيش وحسين الحاج حسن عن دور المقاومة في مواجهة المجموعات الارهابية على الحدود. وأكدا انّ خيار المقاومة بتنفيذ العمليات العسكرية الواسعة على الحدود كان خياراً صائباً ومخاوفنا كانت في محلها، ولو لم تقم بهذا الأمر لكان الإرهاب دخل وتغلغل الى لبنان منذ أربع سنوات».

بدوره، ناشد الوزير سجعان قزي رئيس مجلس النواب نبيه بري دعوة هيئة الحوار الوطني الى الانعقاد لاتخاذ الموقف المناسب.

وجرى نقاش مطوّل حول ملف النازحين السوريين، ففيما دعا بعض الوزراء الى ضبط حركة النازحين واتخاذ اجراءات عاجلة لتأمين عودتهم، دعا وزراء آخرون الى التنبّه لردّات فِعل الأهالي على النازحين.

واكدت مصادر وزارية لـ«الجمهورية» انّ الوزراء أجمعوا على ضرورة إعطاء الشرعية في الدفاع عن أمن لبنان للأجهزة الامنية ورفض الامن الذاتي. واشارت الى انّ تناغماً بين الوزراء، خصوصاً المتخاصمين منهم، لوحِظ عند مداخلة الوزير جبران باسيل حول أحداث القاع وإشادته بنواب المنطقة الذين تصرّفوا على درجة عالية من المسؤولية والتضامن. فأثنى الوزير غازي زعيتر على كلامه.

إجتماع أمني

وعقد اجتماع أمني في مكتب قائد الجيش العماد جان قهوجي ضَمّه ووزير الدفاع سمير مقبل ووزير الداخلية نهاد المشنوق ومدير عام الامن العام اللواء عباس ابراهيم.

وترأس سلام اجتماعاً امنياً صدر عنه بيان أكّد «أنّ الاعتداء الذي استهدف بلدة القاع قد يكون مؤشراً إلى مرحلة جديدة أكثر شراسة في المواجهة مع الإرهاب الظلامي».

وقالت مصادر المجتمعين لـ«الجمهورية» إنهم تبلّغوا من الاجهزة الامنية انّ التحقيق تَوصّل الى تحديد هويات 7 انتحاريين جميعهم من السوريين، وما زال التدقيق مستمراً في هوية الثامن، مع ترجيح إمكان وصولهم الى القاع عبر جرود عرسال.

القاع... ومصير المسيحيين

وطرحت قضية التفجيرات في القاع على بساط البحث مسألة الوجود المسيحي في القرى البقاعيّة الحدوديّة والأطراف، خصوصاً انّ هذا الملف بات بحاجة الى عناية خاصة مع دخول القرى المسيحية دائرة الخطر.

حمل أبناء القاع السلاح، رجالاً ونساء، واستنفر أهالي رأس بعلبك وحملوا السلاح تحسّباً لأي طارئ، خصوصاً انّ «داعش» تحتلّ قسماً لا بأس به من جرود البلدة. وبرز التنسيق بين الكنائس المسيحية في البقاع، وترددت أصداء ما حصل في منطقة دير الأحمر وزحلة، حيث أبدى رجالها كل الإستعداد لنجدة البلدات المسيحية الحدودية اذا دعت الحاجة.

ونشطت الأحزاب المسيحية قيادة وافراداً على الأرض، واستمرت الإتصالات السياسية مع المرجعيات الأمنية لفرض الأمن وضبط الوضع، مع تأكيدهم على دعم الجيش للقيام في جميع مهماته.

حنّا لـ«الجمهورية»

وفي سياق القراءات للهجوم الارهابي على القاع، قال الخبير الاستراتيجي العميد المتقاعد الياس حنّا لـ«الجمهورية»: «يجب أن نفهم انّ المخاطر مستمرة، وانّ الارهابيين استطاعوا اليوم خَرق الوضع الامني. وقد شاهدنا ما حصل، لكن لم نشاهد العمليات التي أحبطت».

واضاف: لا نزال في المرحلة نفسها والمخاطر نفسها لكن بتنا واعين أكثر. فبدل ان يحصل الانفجار في الضاحية يحصل في راس بيروت، وبدل ان يحدث في راس بيروت يحدث في ضهر البيدر. والآن في القاع، وليس ذلك معناه انّ ما يحدث مبرّر وانّ من استشهد في ضهر البيدر يختلف عمّن استشهد في القاع، لكن ما اقوله هو أننا اليوم في مرحلة جديدة.

واكد حنّا أن لا شيء اسمه تدابير ناجعة ولا شيء اسمه أمن مطلق، ونَوّه بقرار محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر بحظر تجول النازحين السوريين في القاع ورأس بعلبك ووصفه بالقرار المميز جداً.

سكرية

وقال عضو كتلة «الوفاء للمقاومة « النائب الوليد سكرية لـ«الجمهورية»: «القاع هي المستهدفة، وليس أي شيء آخر. ما حدث يجب ان يقنع اللبنانيين بأنّ هذا الإرهاب يقاتل كل من لا ينتمي الى عقيدته وفكره».

واكد سكرية انّ على الدولة اللبنانية «التي اتّبَعت سياسة النأي بالنفس سابقاً وتركت الامور سائبة في لبنان أكان بحركة العبور الى سوريا او دخول المسلحين الى لبنان او بحركة السلاح ذهاباً واياباً او بعدم ضبط النازحين، أن تعيد النظر في سياستها وتبني استراتيجية الدولة اللبنانية لمواجهة هذه الحال، أكان بالمسلحين الموجودين في جرود عرسال او النازحين المنتشرين عشوائياً في لبنان.

واعتبر تاريخ 28 حزيران كما قبله، فخطر الارهاب قائم دائماً، وعلى من يدفنون رؤوسهم في الرمال ويحيدون أنفسهم ويعتبرون انّ المعركة بين «حزب الله» والارهاب، أن يقتنعوا انّ هذا الارهاب سيستهدف أيّاً كان خصوصاً اذا تمّ إخراجه من العراق وسوريا».

«14 آذار»

وقالت مصادر بارزة في قوى 14 آذار لـ«الجمهورية»: «المشكلة في لبنان باتت واضحة، والحلّ عبر قرار مجلس الامن الدولي الرقم 1559 الذي ينزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية على الاراضي اللبنانية، وبالقرار 1701 الذي يدعو الى ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا وضبطها من قبل الجيش اللبناني والقوى الشرعية حصراً.

ورأت انّ حلّ مشكلة الارهاب في لبنان او مشكلة الارهاب المتسلّل من سوريا الى لبنان يمرّ حُكماً بضبط الحدود وإقفالها في وجه الارهاب والارهابيين، وفي وجه أيّ حركة سلاح غير شرعي بالاتجاهين».

وشددت المصادر على «ان لا شيء إسمه مسيحي ومسلم في مواجهة الارهاب، هو يضرب جميع اللبنانيين من دون استثناء»، واعتبرت «أنّ التدابير الامنية المتخذة اليوم كفيلة بأن تقف في وجه الارهاب من الناحية التقنية.

لكن اذا أردنا معالجة الموضوع بنحو اساسي وجذري فإنّ الحل الوحيد هو ترسيم الحدود وضبطها وانتشار أمني وعسكري شرعي عليها بنحو كامل بمساندة من القوات الدولية الموجودة في الجنوب وفقاً للقرار 1701».

 

 

المستقبل: الدولة متأهبة.. و«الأمن الذاتي» مرفوض

 

مع تواصل الاستعدادات لتشييع شهدائها الخمسة عصراً، تعيش بلدة القاع ومعها كل الوطن حالة من الاستنفار العسكري والأمني والأهلي غداة التفجيرات الانتحارية الثمانية التي أدخلت البلاد من أقصاها إلى أقصاها في مرحلة حرجة جديدة على خارطة المواجهة المفتوحة مع الإرهاب المتمدد من سوريا، ما استدعى رفع الدولة تأهبها إلى مستوياته القصوى حكومياً وعسكرياً وأمنياً درءاً للخطر المحدق بالساحة الداخلية وتأكيداً على حصرية مسؤولية المؤسسات الشرعية في حفظ الاستقرار والأمن وسط رفض جامع عبّر عنه مجلس الوزراء أمس لكل مظاهر «الأمن الذاتي» سواءً كان فئوياً أو طائفياً أو مذهبياً «لكي لا نقع في الفخ الذي نصبه لنا الإرهابيون« كما نبّه رئيس الحكومة تمام سلام. في حين كان الرئيس سعد الحريري يجدد التشديد على أنه لا سبيل لحماية لبنان «إلا من خلال الانضباط الشامل تحت سقف المصلحة الوطنية العليا وتحت سقف الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية وإلا بخلاف ذلك سيبقى لبنان ساحة للتدخل والتسلل والتخريب«.

إذاً، استنفر لبنان الرسمي كامل قواه المؤسساتية الشرعية في مواجهة الموجة الإرهابية التي أطلت برأسها على الساحة الداخلية الاثنين من بلدة القاع البقاعية، في ظل ارتفاع منسوب المخاوف الوطنية من أن يكون ما حصل «بدايةً لموجة من العمليات الإرهابية في مناطق لبنانية مختلفة« وفق تعبير سلام في مستهل جلسة مجلس الوزراء، ومؤشراً إلى «مرحلة جديدة أكثر شراسة في المواجهة مع الإرهاب الظلامي مع عدم استبعاد أن تكون هذه الجريمة الإرهابية فاتحة لموجة من العمليات الإرهابية» بحسب ما جاء في بيان الاجتماع الأمني الذي عقد مساءً في السرايا الحكومية ودعا خلاله المجتمعون إلى وجوب عدم اتخاذ الاعتداء الإرهابي الذي وقع في القاع «ذريعة لأي شكل من أشكال الأمن الذاتي المرفوض». 

وبينما عُقد كذلك اجتماع عسكري - أمني في اليرزة جمع إلى قائد الجيش العماد جان قهوجي، وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء ابراهيم بصبوص والمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، وتناول البحث التطورات الأمنية الأخيرة في منطقة القاع وتعزيز الجهود العسكرية والأمنية المشتركة لمكافحة الإرهاب، أوضح وزير الداخلية لـ»المستقبل» أنّ «الأكيد بحسب المعلومات المتقاطعة أمنياً وعسكرياً أنّ 7 من انتحاريي «القاع» الثمانية كانوا قد أتوا من الداخل السوري في حين يتم العمل على تحليل معالم وجه الانتحاري الثامن للتأكد من هويته». ورداً على سؤال، أجاب المشنوق: «هدف الموجة الإرهابية لم يتضح نهائياً بعد لكن مختلف تقديرات الأجهزة تؤكد أنها ليست موجة عابرة».

مجلس وزراء.. أمني

وعلى وقع المستجدات الإرهابية الخطرة، حوّل مجلس الوزراء جلسته أمس من مالية إلى أمنية استهلها سلام بمطالبة جميع القوى السياسية «إعطاء موضوع استهداف بلدة القاع المسيحية بعده الوطني وليس الفئوي» مذكراً بأنّ «مناطق إسلامية مثل الضاحية الجنوبية وطرابلس وعرسال وغيرها استهدفت في الماضي». وبنتيجة النقاش أصدر المجلس بياناً جدد فيه «ثقته الكاملة بالجيش وجميع القوى والأجهزة الأمنية التي تؤدي على أكمل وجه واجبها الوطني في حماية أمن اللبنانيين وحفظ الاستقرار في جميع أنحاء البلاد«، ودعا «جميع المواطنين إلى الالتفاف حول القوات الشرعية وعدم الاستسلام للذعر الذي يريد الإرهابيون بثه في النفوس لهز الثقة بالبنيان الوطني«، واضعاً نفسه «في حالة تأهب دائم للتعامل مع أي تطور أمني جديد«، ومعلناً «وضع جميع المؤسسات الحكومية بكلّ إمكاناتها في حالة استنفار كامل لمواجهة تداعيات الأحداث«.

عن مجريات الجلسة، أوضحت مصادر وزارية لـ»المستقبل» أنّ النقاش في شقه السياسي تراوح بين تركيز وزراء «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» على ملف النازحين السوريين ومطالبتهم بحل شامل لمسألة المخيمات التي يلتجئون إليها على الأراضي اللبنانية في ضوء تفجيرات «القاع» وسط إثارة الوزير محمد فنيش مسألة ترحيل بعضهم إلى عدد من المناطق السورية الآمنة بالتنسيق مع الحكومة السورية، وبين مطالبة وزراء قوى 14 آذار وخصوصاً الوزيرين نبيل دي فريج وسجعان قزي بضرورة الاستفادة من القرار 1701 الذي يتيح للجيش اللبناني طلب المساعدة من القوات الدولية العاملة في الجنوب للانتشار عند كل المرافئ الحدودية البرية اللبنانية والعمل على ضبطها.

غير أنه وفي محصلة النقاش الوطني على طاولة مجلس الوزراء، لفتت المصادر إلى أنّ كل أعضاء المجلس أعربوا عن الدعم المطلق للجيش والأجهزة الرسمية الشرعية والرفض التام لأخذ ردات الفعل على التفجيرات الإرهابية منحى طائفياً، بالتوازي مع إبداء الوزراء بالإجماع رفضهم لكل أشكال الأمن الذاتي في البلد.

 

اللواء : على إيقاع الصدمة البريطانية..!

 

يبدو أن مناعة الاستقرار في الدول الأكثر تقدماً، لا تحميها من التعرّض لاهتزازات سياسية واقتصادية، يصل بعضها إلى مستوى الزلزال المدمر، خاصة إذا كانت الارتدادات مستمرة، وتطال مستقبل أجيال بكاملها.
خروج بريطانيا المدوّي من الاتحاد الأوروبي، يتجاوز بأبعاده ومضاعفاته المملكة المتهالكة وعلاقتها بالقارة العجوز، ليشمل بتداعياته حركة الأسواق المالية المرتبكة والمذعورة، ويطال، بشكل أو بآخر، قواعد النظام العالمي الحالي، في حال كرّت سبحة الانسحاب من المنظومة الأوروبية.
لم تكن نتائج الاستفتاء البريطاني متوقعة باتجاه الخروج من القطار الأوروبي، بالنسبة لكثيرين داخل بريطانيا، وفي عواصم القرار الدولي. كل الحسابات الواقعية، وما رافقها من تحليلات منطقية، كانت ترجح بقاء التاج البريطاني في الفضاء الأوروبي، نظراً للفوائد الاقتصادية والمالية الكبيرة التي تجنيها بريطانيا من الشراكة الأوروبية، مقابل حسابات الكلفة العالية لترك الاتحاد الأوروبي، والتي تقدّر بمئات المليارات من الجنيهات، والتراجع المتوقع في النمو لعدة سنوات، فضلاً عن إمكانية فقدان أسواق حيوية للمنتجات والصناعات البريطانية.
ولكن التصويت جاء عكس كل التوقعات، وجسّد حالات الانقسام داخل حزبي المحافظين والعمّال، وكشف حجم الصراعات الشخصية الدائرة بين قيادات الصف الأوّل في كل حزب!
* * *
لقد بدا واضحاً أن نتائج الاستفتاء ألحقت هزيمة نكراء برئيس الحكومة البريطانية دايفيد كاميرون، ودفعته إلى إعلان استقالته، وهو في الأصل، كان صاحب اقتراح إجراء الاستفتاء، وأكثر المتحمسين له، على أمل أن يتخلص من خلاله من منافسيه على قيادة المحافظين، وفي مقدمهم عمدة لندن السابق بوريس جونسون، الذي قاد بشراسة حملة الخروج من المنظومة الأوروبية، انتقاماً من غريمه كاميرون.
وجاءت مفارقة انقسام قيادات الحزبين: المحافظين الحاكم، والعمال المعارض، بين مؤيد للبقاء مع أوروبا، ومطالب بالخروج، لتزيد من إرباك المؤيدين، وتفضح حجم الهوّة التي تباعد بين القواعد الشعبية واتجاهات الرأي العام، وبعض قيادات الحزبين الرئيسيين في بريطانيا، على غرار ما حصل عندنا في الانتخابات البلدية مثلاً!
وأدت المفاجأة الصاعقة للاستفتاء البريطاني إلى إطلاق موجات متفاوتة من أحزاب اليمين المتطرّف في أكثر من بلد أوروبي، تطالب بالخروج من منظومة الاتحاد، واستعادة السيادة الوطنية بالنسبة للقرارات المالية والاقتصادية، وملفات الإقامة والهجرة التي تحوّلت إلى كابوس حقيقي بالنسبة لبعض الشعوب الأوروبية.
فهل تكون الخطوة البريطانية الصادمة بداية مرحلة تفكيك الاتحاد الأوروبي على غرار ما حصل للاتحاد السوفياتي في نهايات القرن الماضي؟
* * *
تعترف النخب السياسية والإعلامية الأوروبية، بأن تجربة الاتحاد نجحت، وإلى حدّ مقبول، في الميادين الاقتصادية والمالية، ولكنها أخفقت في المجالات الاجتماعية، وخاصة في ما يعني مشاكل المزارعين، وتضارب المصالح في حركة الهجرة من الدول الأوروبية الشرقية، باتجاه الدول الغربية، الأكثر تقدماً، والأكثر ازدهاراً.
ويعتبر البعض أن التباطؤ غير المبرّر من الحكومات الأوروبية، ومن المؤسسات الاتحادية في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، وفي تطوير بعض اتفاقات وأنظمة الاتحاد، قد ساهم في تعميم مشاعر التمرّد الشعبي على فكرة الوحدة الأوروبية، وأدى إلى تزايد أصوات المطالبين بالخروج من الاتحاد، سواء في فرنسا أو المانيا أو حتى بريطانيا وإيطاليا واليونان، التي تشهد جميعها انتشاراً مطرداً لظاهرة التعصّب الوطني ضد الانتماء الأوروبي، حيث تعمل الأحزاب اليمينية المتطرفة على استثمار هذه الظاهرة في أجندتها السياسية.
غير أن التاج البريطاني قد يدفع الثمن غالياً للعاصفة الأوروبية الجديدة، وذلك عبر الأخطار المحتملة لتفكّك «المملكة المتحدة» في حال أصرّت اسكتلندا على الخروج من الدائرة الإنكليزية إلى الفضاء الأوروبي، مما قد يعني بداية تفكك المملكة التي تضم أربع دول: انكلترا، ويلز، ايرلندا الشمالية، واسكتلندا!
* * *
لا شك أن أي تفكّك أو ضعف، يصيب الاتحاد الأوروبي سيؤدي إلى تراجع دوره وفعاليته في المحافل الدولية، وخاصة بالنسبة للملفات والأزمات العربية المعقدة، حيث كان الرهان يوماً على الحضور الأوروبي لتحقيق بعض التوازن مع السياسات الأميركية الرعناء تجاه قضايا المنطقة.
ولكن الرياح تجري دائماً، بغير ما تشتهي السفن العربية عادة!!