هاني فحص هناك إغراء شديد بوحدة الذاكرة، والى ما في هذه الوحدة من إلغاء، فإن التذكر يدخل في نظام حرية الرأي. وإذا كنا لا نستطيع أن نجترح قطيعة تامة مع الماضي، فإننا مضطرون أن نختار ذاكرتنا، ما دامت الذاكرة شرط الرؤية في الراهن وشرط الحلم في المستقبل، وما دامت هذه الرؤية... الآن... وذاك الحلم غداً، هما الحافز الذهني في اختيار ما نتذكر، اي ما نحيي في ذاكرتنا وأنفسنا من أجل يومنا وغدنا، ومن أجل تجديد القيم الجامعة، وهجر المفرِّقة، أو كما نشاء، وقد نشاء الجمع ثم نكفّ عنه، وقد نشاء التفرقة ثم نكفّ عنها، لأسباب نفعية أو أخلاقية... ما دام وما دام، فإن للآخر في بيتي أو محلتي أو ضيعتي أو مدينتي أو ديني أو مذهبي، أن يختار ما يفرِّق أو يجمع ويفرق ولكني حرّ في أن لا أختار إلا ما يجمع، ولا أفارق الاجتماع عن أحد إلا إذا اختار هو ذلك، فله افتراقه ولي انتظار عودته إليَّ.
وعليه، فإني مشغول منذ أن هدأت وطعَّمت أو هذبت أو عقلنت جذريتي وثوريتي بالمرونة والنقد الذاتي والتوبة وإعادة النظر والاعتراف والتطهير الدائم للذاكرة وتنقيتها، مشغول بقياس أحلامي على ذكرياتي ما يدعوني الى تفصيل ذكرياتي على أحلامي... أقصد أحلامي وذكرياتي الوطنية، أي الروحية والخلاصية، بالمعنى الديني والدنيوي، إذا أَمَّنَّا لهما المدينة الحاضنة والجامعة، وكففنا عن استغلال كل منهما في الآخر أي في إلغاء الآخر، وعلى أساس منهج توحيدي يجمع بينهما وعياً وعملاً من موقع التغاير والتكامل، أو التغاير الضروري جداً للتكامل، والتكامل الضروري جداً للتغاير والتغيير، في اتجاه الأفضل والأرقى والأجمل... هذا الأجمل، في حاضرنا وفي غدنا، يحتاج الى الأجمل في ماضينا، ويحتاج الى التذكر الحكيم أي تذكر الحكماء للبشاعات والتذكير بها للشفاء من آثارها ومنع تكرارها.

لنتذكر قتلة

بناء على هذا كله أقـول إن لأي من اللبنانيـين الذين أعرفهـم أو لا أعرفهم، واتفق معهم سياسياً ولا أتفق، أن يـتذكر الفتن والحـروب الداخلية والمجازر التي ارتكبها آخرون، بعيدون أو أبعدون، في حق جماعته، مع تناسي ما ارتكبته جماعته، أو قسم منها، في حق جماعة أخرى، وله، لأي كان من لبنان، أن يتذكر المجرمين، القتلة، قتلة الجسد على الهوية أو على الاختلاف في الرأي، وقتلة الروح والوطن بالاستبداد والفساد والإفساد... ويلعن من هم ليسوا من جماعته منهم، ويقدس من هم من جماعته.

هؤلاء مقيمون عندي

أما أنا فإني اصرّ أن أتذكر وأذكّر بالمطران غريغوريوس حجـار والبطريرك بولس المعوشي وسلام الراسي وشكر الله كرم وشكر الله حداد والمطران بولس الخوري والمطران يوسف الخـوري والدكتور وديـع الغـفري، والمطران سليم غزال والخور أسقف يواكيم مبارك، والأساتذة المعلـمين، الذين علموني فيزياء وكيمياء ولغة، وأدباً عربياً كان مؤهلي لقراءة القرآن وتذوقه وعشقه، وقراءة نهـج البلاغة، الذي نبـهني أيـضاً أن هناك نصوصاً دينية أخرى جميلة ولا تختلف إلا شكلاً في همومها الروحية والإنسانية عن النصوص الإسلامية المؤسسة والتراث الشيعي الذي يزين بيتنا الإسلامي والعربي والوطني، من الإنجيل الى أعمال الرسل، الى المزامير، الى ما تبقى ووصلنا من أدب الفراعنة التوحيدي وغيرهم.
أتذكر كريم السمرا ومارون الحاج، وجميل جبور فرنسيس، وايليا إيليا، وأبو وديع العازوري (الناظر الحبيب) ونجله الاستاذ جوزف، والمدير الإشكالي الحيوي المخلص الجميل دخيل شاهين وأخاه الياس، وميشال حداد. والمؤسس التربوي أنطون الصايغ.
وأتذكر جول جمال، المسيحي السوري الطيار، شهيد البـطولة في العـدوان الثلاثي على مصر... ومكرم عبيد وانستاس الكرملي، والحاج رضا الصلح الذي كان قائمقاماً على صور وولد فيها نجـله رياض (الرئيس) ورضع حليباً صورياً من آل (يحيى)، ومدير ناحـية النبطية، حيث أسس المدرسة النظامية الأولى في الجنوب بعد صيدا، وكان يرعاها شخـصياً ويومـياً، والتي حولت النبـطية الى حاضرة ثقافية يلتـقي فيـها الجميع وتلتقي بالجميع، وأتذكر الكوكبة الجـنوبية المواكبة: محـسن الأمـين، وعبد الحسين شرف الدين، وسليمان ظاهر، وأحمد عارف الزين، ومحمد رضا الزين، وأحمد رضا ومحمد جابر آل صفا، وأستاذهم السيد حسن يوسف مكي، الذي أسس وأدار المدرسة الدينية المجاورة لأم المدارس في النبطية، اي مدرسة رضا الصلح، وخَرَّجَ أجيالاً من العلماء والأدباء الذن حققوا الوصلة المنهجية اللازمة بين الموروث والمستجد في المعرفة والأدب، من محمد علي الحوماني الى الشيخ علي الزين وابراهيم فران وغيرهم.
وأتذكر آل سالم وآل منسى وآل خوري من صور وديردغيا وشراكتهم العميقة في الفكر والسياسة وما زال فيهم من نفاخر بعلمه وموقفه الوطني الجامع (المطران بولس الخوري والاب تيودورعادل الخوري) وأتذكر صيدا ومنزل رضا الصلح الذي تحول الى قاعدة وطنية في مواجهة التتريك، وانتهى رواده في المحكمة العرفية في عاليه، مساجين، شهداء ومبرّأين من تهمة ليست تهمة... وأتذكر معروف سعد وحسيب عبد الجواد، وعادل عسيران وشفيق لطفي، وغيرهم.
وأتذكر ما تناقلته الأجيال من أخبار الاقتتال بين ناصيف نصار الذي انتصر، وظاهر العمر الذي انهزم، ولكنهما عادا فتحالفا ضد بطش الجزار، وانهزم المعنى أمام القوة المادية الغاشمة، ولكننا ربحنا هذا الدرس وهذه الأمثولة، وأتذكر الشيخ عبد الله نعمة وحمايته الشجاعة للمسيحيين في الجنوب في لحظة صعبة.
وأتذكر ولا أذكر إلا من كان حكيماً وعاقلاً وقادراً على النـسيان ومقرراً له... أتذكر أحداث الجنوب على أعتاب تأسيس لبنان الكبير، وبإدارة الانتداب وقابليتنا لذلك التي انطلقت شرارتها الأولى من منطقة بنت جبيل، على كتف الجليل، اعتبرها خطأ او ارتكاباً مشتركاً، كحرب السنتين، لم تفت ولا مرة فرصة التوبة والـبراءة أمام اللـه والتـاريخ منه... كما اعتبر ان الحـرب اللبـنانية أو اللبـنانية الداخـلية والخـارجية المشـتركة، على تناغـم بين غايات مراوغة لأصدقاء وأعداء، مـع أوهــام واندفاعـات وانفـعالات ونيات سيـئة لـدى كثـير من الزعماء والحكام في الداخل اللبناني، والجمهور المستفز بما لا يلائم مصالحه ولا تاريخه ولا مستـقبله ولا حريـته ولا كرامـته الـتي لا تأتي إلا من الاندماج والدولة الجامعة... أعتبر هذه الحرب التي صارت حروباً، خطأ أو ارتكاباً مشـتركاً تتسـاوى المسؤوليـات تجاهه، ولا يكفـي لبـنان ولا فلسطين لتـبرير بشاعاتها... لقد خسر الوطن وخسر شهداؤه وأجياله... ويمكن أن نعوض عليهم وعلى لبنان وعلينا بالقطيعة الأدبية والعملية مع هذا التراث الكريه. أعني القطيعة الإيجابية ببناء الدولة على الشراكة.

أنا قانون انتخاب

هل أمضي أكثر في ذكر الأشخاص والأحداث التي إن نسيناها أو تناسيناها حرمنا أنفسنا من لذة بريئة وعميقة ومن منفعة مشروعة وحرمنا أجيالنا من المثال الذي يفتح عقلها على الآخر الضروري لأجل الدنيا والآخرة، والمعرفة والعمل، ولأجل الدين والمذهب والوطن والأمة، والقرية والحي والمدينة... والمدرسة التي نستمر في إغلاقها على الهواء الآتي من الفضاء الواسع، من الآخر.
والجامعة اللبنانية الوطنية التي تحولت الى عقارات موقوفة، هنا على طائفة وهناك على حزب من طائفة وهنا وهناك وهنالك... على الفقر المعرفي الذي لا سبيل للقضاء عليه الا بالتبادل والتداول والشراكة القائمة على العدالة والمشروطة بالمحبة والمتجددة بالحوار والمصونة بالعيش المشترك والمحمية بالدولة المدنية على أساس المواطنة، أي دولة الأفراد لا الطوائف تحت سقف الحق والقانون، وتحت سماء لبنان التي تأخذ منه أو يأخذ منها، أو تستعير أو يستعير ألوان قوس قزح، التي تغزلها الشمس على مغزل الصحو والدفو...
قانون الستين... قانون الارثوذكس... أكثري ونسبي، مركب، ليفعلوا ما شاؤوا، ولكنني نسبي وسطي معتدل توحيدي وحدوي من دون تخل عن خصوصياتي، ومركب، مني ومن الآخر ومنخرط في الحياة بهذا المؤهل. وأنصح الذاهبين الى البعد الواحد بأن لا يمضوا في هذا الدهليز، لأن آخره الفقر والجهل والعزلة التي تشبه الموت.
إني أتذكر لأحيا وأحلم، وأحب الحياة، ولا أحب الموت إلا إذا كانت فيه حياة، وأحب الإحـياء من أجل الحـياة، إحياء الذاكرة وسقـاية زرعهـا بماء الإيمان والأدب والعلم والفن ومطر الوطن، وبـصراحة، ومن نهج البلاغة ذهـبت الى فارس الخـوري وجبران خلـيل جـبران وشـكيب وعادل ونسيب أرسلان وكمال جنبلاط وسعيد تقي الدين ومارون عبود وميخائيل نعيمة وعبد الله العلايلي وتوفيق عواد والأخطل الصغير وايليا أبي ماضي والياس أبي شبكة وأمين نخلة المولود لرشيد نخلة في صور. ومن اصل هاشمي (ابن عمي) ومن أم لبست عباءتها حتى لا تتميز أو تنفصل عن سيدات صور المتسترات المستورات... وفؤاد سليمان وغسان تويني... الى آخر المنظومة الذهبية التي صنعت منا ولنا ثقافتنا البينية الجامعة... والتي لن يجمعنا غيرها ولن نعيد إنتاجها إلا معاً، والثقافة التي ينتجها طرف عصبي واحد لأهل عصبيته لا تقوى على الحياة... ولا تكفي لا للحزب ولا للطائفة... ثم تفرّق فيما تبدو أنها قد جمعت... وقد شاهدنا ونشاهد كيف يتفتت الجزء الى جزيئات. قد يكون الرعيان أليق بأن يكونوا قطيعاً ونحن يناسبنا أن يكون زعماؤنا الطائفيون رعايانا لأننا نعرف كيف نرعاهم بأمانة... هذا الحاضر لو يمضي وذاك الماضي لو يحضر.