يمكن إرجاع تاريخ انتشار السلفية في لبنان الى تلك المرحلة المفصلية من أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وذلك بتأثير من حلقات دمشق أولاً (جمال الدين القاسمي وطاهر الجزائري ومن بعدهما محمد بهجة البيطار وعبد القادر بدران) ومن صحف القاهرة ثانياً (وبالتحديد المنار لرشيد رضا والفتح لمحب الدين الخطيب).. ولعل حضور الشيخ محمد عبده الى بيروت عقب نفيه من مصر (1882-1884 ثم 1885) وحلقاته وسهراته ودروسه في منزل آل حماده في المصيطبة، كما تدريسه في المدرسة السلطانية وغيرها، كان لذلك كله أثر كبير في انتشار نوع من الفهم السلفي للدين، كما يظهر ذلك جلياً من تأثر أمير درزي كبير من جبل لبنان هو شكيب أرسلان بالمدرسة السلفية الاصلاحية لمحمد عبده ورشيد رضا (على حد تعبيره)، ودفاعه عنها ثم عن المملكة السعودية حين نشأتها..

وفي مطلع القرن العشرين كان تأثير مدرسة رشيد رضا (وهو من القلمون قرب طرابلس) وجريدة المنار قوياً الى درجة كبيرة في أوساط المتعلمين اللبنانيين الذين تابعوا أيضاً بدايات دعوة الشيخ محمود السبكي الذي أسس في القاهرة في أواخر القرن التاسع عشر “الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية”؛ وتأثر بعض اللبنانيين أيضاً بتيار الشيخ محمد حامد الفقي الذي أسس في العام 1926 جماعة “أنصار السنة المحمدية” (أيضاً في مدينة القاهرة)… كما تأثر البعض الآخر بجمعية الهداية التي قادها الشيخ محمد الخضر حسين (التونسي1876–1958) الذي عاش فترة في دمشق وصادق شيوخ السلفية يومذاك القاسمي والبيطار ودرّس في الجامع الأموي وفي المدرسة السلطانية وغيرها. وكانت جمعية الهداية تقوم على الدعوة إلى الالتزام بالسنة ومحاربة البدع، وكان منتموها يهتمون بالهدي الظاهر في المسائل المتعلقة بشكل الملابس واللحية وشعر الرأس والحجاب، وغيرها من هذه الأمور. كما نشط بعض اللبنانيين ضمن جمعية الشبان المسلمين التي أسسها الخضر حسين (1876م -1958م) مع السوري السلفي محب الدين الخطيب في نفس سنة تأسيس جمعية الهداية 1926…
هذه السلفية الأولى الناشئة في مصر وسوريا كانت إصلاحية ووطنية عامة ونهضوية عملت لمواجهة الاستعمار والصهيونية من جهة، وعملية التغريب من جهة أخرى في ما رأت أنه تنحية للشريعة الإسلامية عن الحياة العامة، وتغيير مسار التعليم ومناهجه… وقد تصدت لبدايات حملة التغريب التي ظهرت في تلك الفترة، وما صاحبها من دعوات تقلل من قيمة المرأة ومكانة الشريعة الإسلامية في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وظهور وتفشي البدع والخرافات…
وهذا التأثير المصري السوري كان فكرياً ثقافياً سلوكياً ولم يتحول الى عمل حركي أو دعوة منظمة إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية…ولا شك في أن التأثير السوري المباشر كان هو الحاسم وذلك بسبب دراسة علماء لبنان في دمشق وعدم تفضيلهم السفر الى أزهر القاهرة، كما بسبب الروابط الخاصة ما بين طرابلس وبر الشام أو الداخل السوري.. وبالتالي فإنه لا بد هنا من تسجيل ملاحظة أن الطرابلسيين كانوا يرتبطون بالسلفية المصرية الناشئة من خلال أعلامها السوريين في القاهرة (رشيد رضا ومحب الدين الخطيب) كما من خلال أعلامها الكبار في دمشق وعلى رأسهم جمال القاسمي ومحمد بهجة البيطار وعبد القادر بدران وغيرهم…

وكانت مدينة طرابلس في الشمال أول من استحضر الفكر السلفي إلى لبنان، ومنها انطلق إلى باقي المناطق، فهي بحق معقل السلفية الأول في البلاد، ويوجد بها أكثر من عشرين جمعية سلفية… ولكن السؤال الذي لم يطرحه أحد هو لماذا كانت طرابلس بالذات هي مهد نشوء الحركة السلفية ومعقلها كما كانت أيضاً مهد نشوء وقوة الجماعة الاسلامية وحزب التحرير وحركة التوحيد وغيرها من الحركات؟

يسهل لدى البعض القول بأن مدينة طرابلس محافظة ولذلك انتشر فيها التيار السلفي…والحقيقة أن صيدا وبيروت وقرى الشوف وغيرها هي أيضاً محافظة.. خصوصية طرابلس تاريخية سوسيولوجية… فبورجوازية طرابلس المرتبطة اقتصادياً وتجارياً بالداخل السوري لم تقبل أبداً بفصل لبنان عن سوريا وبقي ذلك الموقف ظاهراً وخفياً في أساس الكثير من الأمور مثل وجود نقابات مهن حرة في طرابلس مستقلة ومنفصلة عن بقية نقابات لبنان الموحدة في نقابة واحدة مركزها بيروت… فطرابلس رفضت مركزية بيروت وجبل لبنان وهي طالبت وما زالت تطالب (على سبيل المثال لا الحصر) بإعادة تشغيل المرفأ والمطار ومركز المعارض، الأمر الذي لا تحققه لها السلطة المركزية برغم وجود طرابلسي على رأس حكومات كثيرة (آخرهم السيد نجيب ميقاتي ومعه 5 وزراء طرابلسيين)… وكانت طرابلس مركزاً للحركات المطالبة بالوحدة مع سوريا في العشرينيات والثلاثينيات… واستمرت على هذا الموقف حين رأت البورجوازية البيروتية ضرورة الاستقلال اللبناني بعد عام 1936… ومواقف زعيم طرابلس الشيخ عبد الحميد كرامي من الاستقلال اللبناني معروفة… وانتشار المد العروبي الوحدوي (الناصري كما البعثي) في الخمسينسيات والستينيات أيضاً تاريخ معروف ولعله يفسر ضعف التيار الاسلامي الحركي وعدم امكانية تشكله بقوة في تلك المراحل برغم نشوء الاخوان عام 1928 وانتشارهم الى فلسطين وسوريا منذ العام 1936 (تاريخ الثورة الفلسطينية الكبرى)…

وإلى موقف الارتباط بالداخل السوري وبالمحيط العربي، حافظت طرابلس على وضعها كمدينة قاعدتها الاجتماعية الأساسية تتشكل من صغار الحرفيين وذلك بفعل التهميش الاقتصادي والاجتماعي الذي تعرضت له بعد تشكيل لبنان الكبير وانفصالها عن محيطها المباشر وسوقها الفعلي…