يبدو أن مناعة الاستقرار في الدول الأكثر تقدماً، لا تحميها من التعرّض لاهتزازات سياسية واقتصادية، يصل بعضها إلى مستوى الزلزال المدمر، خاصة إذا كانت الارتدادات مستمرة، وتطال مستقبل أجيال بكاملها.

خروج بريطانيا المدوّي من الاتحاد الأوروبي، يتجاوز بأبعاده ومضاعفاته المملكة المتهالكة وعلاقتها بالقارة العجوز، ليشمل بتداعياته حركة الأسواق المالية المرتبكة والمذعورة، ويطال، بشكل أو بآخر، قواعد النظام العالمي الحالي، في حال كرّت سبحة الانسحاب من المنظومة الأوروبية.

لم تكن نتائج الاستفتاء البريطاني متوقعة باتجاه الخروج من القطار الأوروبي، بالنسبة لكثيرين داخل بريطانيا، وفي عواصم القرار الدولي. كل الحسابات الواقعية، وما رافقها من تحليلات منطقية، كانت ترجح بقاء التاج البريطاني في الفضاء الأوروبي، نظراً للفوائد الاقتصادية والمالية الكبيرة التي تجنيها بريطانيا من الشراكة الأوروبية، مقابل حسابات الكلفة العالية لترك الاتحاد الأوروبي، والتي تقدّر بمئات المليارات من الجنيهات، والتراجع المتوقع في النمو لعدة سنوات، فضلاً عن إمكانية فقدان أسواق حيوية للمنتجات والصناعات البريطانية.

ولكن التصويت جاء عكس كل التوقعات، وجسّد حالات الانقسام داخل حزبي المحافظين والعمّال، وكشف حجم الصراعات الشخصية الدائرة بين قيادات الصف الأوّل في كل حزب!

لقد بدا واضحاً أن نتائج الاستفتاء ألحقت هزيمة نكراء برئيس الحكومة البريطانية دايفيد كاميرون، ودفعته إلى إعلان استقالته، وهو في الأصل، كان صاحب اقتراح إجراء الاستفتاء، وأكثر المتحمسين له، على أمل أن يتخلص من خلاله من منافسيه على قيادة المحافظين، وفي مقدمهم عمدة لندن السابق بوريس جونسون، الذي قاد بشراسة حملة الخروج من المنظومة الأوروبية، انتقاماً من غريمه كاميرون.

وجاءت مفارقة انقسام قيادات الحزبين: المحافظين الحاكم، والعمال المعارض، بين مؤيد للبقاء مع أوروبا، ومطالب بالخروج، لتزيد من إرباك المؤيدين، وتفضح حجم الهوّة التي تباعد بين القواعد الشعبية واتجاهات الرأي العام، وبعض قيادات الحزبين الرئيسيين في بريطانيا، على غرار ما حصل عندنا في الانتخابات البلدية مثلاً!

وأدت المفاجأة الصاعقة للاستفتاء البريطاني إلى إطلاق موجات متفاوتة من أحزاب اليمين المتطرّف في أكثر من بلد أوروبي، تطالب بالخروج من منظومة الاتحاد، واستعادة السيادة الوطنية بالنسبة للقرارات المالية والاقتصادية، وملفات الإقامة والهجرة التي تحوّلت إلى كابوس حقيقي بالنسبة لبعض الشعوب الأوروبية.

فهل تكون الخطوة البريطانية الصادمة بداية مرحلة تفكيك الاتحاد الأوروبي على غرار ما حصل للاتحاد السوفياتي في نهايات القرن الماضي؟

تعترف النخب السياسية والإعلامية الأوروبية، بأن تجربة الاتحاد نجحت، وإلى حدّ مقبول، في الميادين الاقتصادية والمالية، ولكنها أخفقت في المجالات الاجتماعية، وخاصة في ما يعني مشاكل المزارعين، وتضارب المصالح في حركة الهجرة من الدول الأوروبية الشرقية، باتجاه الدول الغربية، الأكثر تقدماً، والأكثر ازدهاراً.

ويعتبر البعض أن التباطؤ غير المبرّر من الحكومات الأوروبية، ومن المؤسسات الاتحادية في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، وفي تطوير بعض اتفاقات وأنظمة الاتحاد، قد ساهم في تعميم مشاعر التمرّد الشعبي على فكرة الوحدة الأوروبية، وأدى إلى تزايد أصوات المطالبين بالخروج من الاتحاد، سواء في فرنسا أو المانيا أو حتى بريطانيا وإيطاليا واليونان، التي تشهد جميعها انتشاراً مطرداً لظاهرة التعصّب الوطني ضد الانتماء الأوروبي، حيث تعمل الأحزاب اليمينية المتطرفة على استثمار هذه الظاهرة في أجندتها السياسية.

غير أن التاج البريطاني قد يدفع الثمن غالياً للعاصفة الأوروبية الجديدة، وذلك عبر الأخطار المحتملة لتفكّك "المملكة المتحدة" في حال أصرّت اسكتلندا على الخروج من الدائرة الإنكليزية إلى الفضاء الأوروبي، مما قد يعني بداية تفكك المملكة التي تضم أربع دول: انكلترا، ويلز، ايرلندا الشمالية، واسكتلندا!

لا شك أن أي تفكّك أو ضعف، يصيب الاتحاد الأوروبي سيؤدي إلى تراجع دوره وفعاليته في المحافل الدولية، وخاصة بالنسبة للملفات والأزمات العربية المعقدة، حيث كان الرهان يوماً على الحضور الأوروبي لتحقيق بعض التوازن مع السياسات الأميركية الرعناء تجاه قضايا المنطقة.

ولكن الرياح تجري دائماً، بغير ما تشتهي السفن العربية عادة!!

 

 

صلاح سلام: اللواء