توليفةٌ من الأحلام المجنونة راودتها منذ صغرها. عادةً ما يدرك الولد حين يصير راشداً أن أفكار الطفولة الخيالية محض سراب. لكنّ مايا نصر صدّقت أنها تريد السفر الى القمر، وزيارة المرّيخ في طريقها، قبل عودتها الى الأرض. كأنها بطلة مسلسلٍ كرتونيّ، تقود مركبةً فضائيّة وتصادق مخلوقاتٍ من مجرّةٍ بعيدة. على غفلةٍ، صار الحلم حقيقة. حصل ذلك مع بداية المرحلة الثانوية، حين تقدّمت مايا نصر صدفةً، بطلب منحةٍ لمتابعة دراستها الجامعيّة في معهد ماساتشوستس الجامعي للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأميركية في مجال الهندسة الفضائية. هي ورقة كتبتها، كانت كفيلة بتغيير حياتها.

وهي ما لبثت ان قرأت النتيجة بعينين لامعتين بعد أن تقدّمت بعلاماتها المدرسيّة: "انت مقبولة". كان ذلك بمثابة انجازٍ لطالبة لبنانية يافعة، ان تصير جزءاً من فريقٍ جامعيّ من النادر ان يتقبّل في صفوفه أعضاء من غير المواطنين الأميركيين نظراً لتميّز الاختصاص بالسرية التامة، وارتباطه بتفاصيل حكوميّة، كما تشير مايا في حديثٍ لـ"النهار". 40 طالبًا وحسب، يجتمعون في صفٍ واحد لدرس غرائب الكون وخفاياه، من بينهم 3 طلّابٍ من أوروبا وطالبة واحدة لبنانية عربيّة: هي مايا نصر. من الولايات المتحدة الأميركية، صارت النظرة الحالمة الى القمر أقرب، والموعد معه بات أقرب الى الحقيقة، منه الى الخيال.

المفارقة تكمن في أن اختصاص الهندسة الفضائيّة هو أكثر الاختصاصات الجامعيّة صعوبةً على الإطلاق. أعداد خرّيجيه تتقلّص في كلّ سنةٍ بشكلٍ لافت. لكن مايا قبلت التحدي. ها هي بعد انهائها سنتها الجامعيّة الثانيّة في جامعة Massachusetts Institute of Technology - MIT، واحدة بين أوّل ثلاث جامعات في العالم وأهمّها، تعمل على 3 مشاريع بالتعاون مع وكالة "ناسا"، هي على التوالي: مشروع نظام الدفع النفاث الذي سيطلق نحو القمر عام 2018، ومشروع حول كيفية تحويل ثاني اوكسيد الكاربون على سطح المريخ الى اوكسيجين، فيما يتمحور المشروع الثالث حول تحرّك علماء الفضاء في حال عدم توفّر الجاذبيّة. كما سبق لها أن عملت على برامج اضافيّة متعلّقة بمجالَي البرمجة والأقمار الصناعية.

تتحضّر طالبة جامعة MIT اليوم للسفر الى بريطانيا، بعد أن كانت الطالبة الوحيدة في دفعتها الجامعيّة التي قبلت من قبل الجامعة الملكيّة في لندن لانجاز بحثٍ أكاديميّ جديد هذا الصيف، تعوّل على أن يضيف الى مسيرتها التعليميّة المزيد من الانجازات. وهي تصمّم على الحصول على الجنسيّة الأميركيّة لتتمكّن من السير قدماً في سبيل تحقيق طموحها على اكمل وجه. تقول: "سأتخرّج عام 2018، لكنّي سأسعى الى تمديد اقامتي في الولايات المتحدة الأميركيّة ومتابعة دراسة الماستر ثمّ الدكتوراه، ما يعزّز امكانية حصولي على جنسيّة أميركيّة تدعّم خطواتي في مستقبلي المهنيّ".

صعوبات لا بدّ من تجاوزها
رغم الانجاز الذي حقّقته ابنة التسعة عشر عاماً في مجال الهندسة الفضائيّة، الا أن مشوارها الأكاديمي تشوبه صعوباتٌ جمّة أبرزها أنها تنتمي الى منطقةٍ تعاني ما تعانيه من أزمات: الشرق الأوسط. "لا يمكنني تقديم طلب الحصول على جنسية اميركية قبل سنتين من اليوم، أي تاريخ انتهاء دراستي. لكن مسألة الحصول على جنسية بات صعباً في ظلّ مرحلة الانتخابات الرئاسية وتبديل الرئيس من جهة، واوضاع الشرق الأوسط التي صعّبت علينا امكانية الحصول على جنسية اميركية بسهولة. هناك أمل لكن المسألة صعبة" تشير نصر.

"الى أي مدى تؤثّر مسألة الحصول على جنسيّة على اندفاعك نحو تحقيق طموحاتك المهنيّة؟" تجيب أنها "من اكثر المسائل الصعبة أن تكون الجنسية هي التي من الممكن ان تحدّ من طموحاتك وتحدد لك الأماكن التي يمكن ان تزورها في الولايات المتحدة. حتى وان كنت تتمتع بقدرات أكثر من اي شخص آخر يدرس هذا الإختصاص، لكن الفرق يتمثّل في أن الشخص الآخر حائز على جنسيّة وهذا ما يميّزه عنك. هذا ما يجعلك أمام واقع أن حياتك تسير في اتجاهٍ واحد لا يمكن لك أن تساهم في تغييره".

في المقابل، تؤكّد نصر أن مقوّمات الحياة في الولايات المتحدة الأميركية سهلة وايجابيّة، ودعم الطاقم التعليمي والأصدقاء كبير، ما يحفزها للمضي قدما في سبيل تحقيق انجازات اضافيّة في مجال دراستها. طموحها الاساسي الحصول على أجوبة حيال خبايا الكون وامكانية وجود حياة على كواكب في مجرّات بعيدة، وهو الهدف الذي يشغل جميع روّاد الفضاء اليوم.

تعامل المحيط الاجتماعي في لبنان مع الحدث
من الشوف الى الولايات المتحدة، كانت الرحلة الدراسية مفاجئة لأقارب مايا وعائلتها. هي تقول أنهم لم يشجعوها بدايةً على خوض هذه المغامرة. اعتبروا أنه اختصاص يحتاج جهداً مضاعفاً ويمنعها من امكانية الاستقرار مستقبلاً في لبنان. لكنهم ما لبثوا أن بدّلوا موقفهم بعد الانجازات التي حقّقتها، وعادت الى بلدتها نجمةً، مدعاة فخرٍ لأبويها.

تقول: "اعلامياً كانت الأصداء جيّدة بعد عودتي من الولايات المتحدة. لم يكن هناك استغراب او دهشة حيال مسيرتي الأكاديمية، رغم أن تلك المواقف كانت تفرض نفسها عند سماعهم الخبر للمرّة الأولى". تعتقد نصر أن محيطها المجتمعي آمن، وهي تقوم بانجازٍ تحبّه. صحيحٌ أن مغامرة صعبة اتخذتها على عاتقها، لكنها تعتبر أن المخاطرة تفرض نفسها في أي عملٍ تحبّه، لذلك لن يأتي يوم يندم فيها الإنسان على المخاطرة اتخذها في حياته.

كان لا بدّ لمايا أن تتخذ قراراً حاسماً بالسفر البعيد بغية تحقيق الذات. هي تجد نفسها تلك البطلة الأسطورية في مسلسلٍ كارتونيٍّ يتيح الرحلات بين كواكب الكون بلمحة بصر. وبلمحة بصر قد يكفل صاروخٌ برمجته الفتاة اللبنانية، نقلها الى الكواكب البعيدة. يقال أن الأحلام تكون غالباً أجمل من حقيقتها. ما يميّز حلم مايا، أنه هو الحقيقة بذاتها. يبقى أمامها أن تطأ سطح القمر والمرّيخ، لتبحث عن مؤشّرات حياةٍ جديدة. يبقى أمامها أن لا تنسى أن حلمها ولد من فكرة... فكرة كفلتها نظرة بؤبؤ نحو السماء.

  مجد بو مجاهد.