لم يحظ اسم محمود أبو عبّاس بالشّهرة المطلوبة في عالم الإرهاب. منذ توقيفه في مسقط رأسه في مجدل عنجر أثناء عمليّة محكمة للجيش اللبنانيّ في نهاية الـ2014، سمع المحقّقون وقاضي التحقيق العسكريّ الأوّل صوته. سريعاً، اعترف الرّجل بعلاقته بالقياديّ في «كتائب عبدالله عزّام» سراج الدّين زريقات وأحد المسؤولين عن السيارة المفخّخة التي ضُبطت في النّاعمة حسين زهران.

  حينها، التصق اسم «محمود العطّار» بانتحاريي ضهر البيدر والطيونة، وبإيواء سجى الدليمي، ليظهر أنه واحد من أبرز الموقوفين الإرهابيين الذين خطّطوا (بتكليف من زريقات) كي ينفّذ انتحاريا ضهر البيدر والطيونة عمليّة انتحاريّة مزدوجة في «مسجد القائم» في الضاحية الجنوبيّة لبيروت.  

بعدها، ذهب صيت الموقوف أدراج الرياح. وقف مرّتين داخل قاعة المحكمة العسكريّة، دقائق قليلة وعاد أبو عبّاس إلى النّظارة لتغيّب وكيل الدّفاع عنه. بالأمس، كانت المرّة الأولى التي يتحدّث فيها ناقل الانتحاريين على الملأ.

  وبرغم أنّ إفادتيه الأوليّة والاستنطاقيّة مثقلتان بتفاصيل المهمّات الموكلة إليه، إلّا أنّ رئيس «العسكريّة» العميد الرّكن الطيّار خليل ابراهيم تقصّد أن يكون دور «العطّار» في بداية الجلسة مستمعاً. بدا الرّجل مربكاً وآذانه صاغية لاستجواب المدّعى عليه الثاني في القضيّة المخلى سبيله أركان جلول.

  وما إن انتهى استجواب جلول، حتى عُرف هدف ابراهيم بترك أبو عبّاس المستجوب الثاني بعد جلول الذي أكّد أنّ علاقته بأبو عبّاس محصورة بكونهما يعملان في الجفصين، من دون أن يدرك أن الحديث الذي فاتحه فيه خلال إحدى السّهرات كان جديّاً.

  ظنّ الشاب أن عرض «العطّار» بالذهاب إلى سوريا والانضمام إلى «كتائب عبدالله عزّام» لتلقّي دورة عسكريّة بغية مقاتلة النّظام السوري، ثمّ العودة إلى لبنان لنقل انتحاريين وسيارات مفخّخة لصالح «الكتائب» مقابل المال، ليس إلّا مزحة.   استغلّ أبو عبّاس عمليّة قتل شقيق جلول على يد القوى الأمنيّة، كي يقنعه بالثأر عبر الانضمام إلى «عبد الله عزّام». ولكنّ جلول بقي على رفضه من دون أن يبلغ السّلطات المعنيّة.  

هذا ما أكّده الشاب أمس على مرأى ومسمع من أبو عبّاس، الذي سرعان ما ردّ عليه: «أنا قلت لك ذلك؟ أقسم بالله…».   لم يترك العميد ابراهيم لأبو عبّاس فرصة للضّغط على جلول، بل طلب منه التقدّم نحو قوس المحكمة لاستجوابه. كلّ ما قاله الموقوف في إفادتيه الأوّلية والاستنطاقيّة أنكره. وحدها عمليّة انتقاله إلى سوريا للقتال هناك برفقة صديقه محمود ياسين الملقّب بـ «أبو دجانة» أكّدها، مشيراً إلى أنّه توجّه في بادئ الأمر إلى القلمون وانضمّ إلى «أحرار الشّام» ثم ذهب بسيارة أجرة إلى يبرود «وقاتلت هناك فقط. ما عملنا شي»!

  بدت إفادة «العطّار» غير منطقيّة. إذ اعترف أنّه حاول إقناع جلّول بالذهاب إلى سوريا للقتال هناك، لفت الانتباه في المقابل إلى أنّ سبب عودته من سوريا وعدم الاستمرار في القتال هو أنّ «الوضع لم يعجبني، وكلّه دجل وكذب هناك»!

  خطّة استهداف «مسجد القائم»  

وعند هذا الحدّ، انتهى التّطابق مع إفادته الأوليّة، ليبدأ الموقوف بالإجابة بالنّفي عن كلّ ما سئل. التفاصيل التي رواها حينما تمّ توقيفه، أشار إلى أنّها كانت من وحي الخيال. هو الذي أكّد تواصل زريقات معه فور عودته إلى لبنان ليقنعه بتنفيذ عمليّة انتحاريّة قبل أن يعدل عن رأيه ويطلب منه العودة إلى سوريا عن طريق عرسال، حيث لاقاه أحد الأشخاص ونقله إلى مقرّ في الجرد معصوب العينين.

  وما إن فتح عينيه، حتى وجد نفسه في حضرة زريقات وياسين، اللذين طلبا منه تحضير نفسه لإيواء انتحاريين ونقل سيارات مفخّخة، بالإضافة إلى استطلاعه أماكن مناسبة لتنفيذ عمليّات انتحاريّة داخل الضاحية، والاختيار ما بين ثلاثة أماكن: «مسجد القائم» أو «مجمّع سيّد الشهداء» أو «ملعب الراية».   وبعد عمليّة مراقبة عن كثب، تواصل «العطّار» مع زريقات ليؤكّد له أنّ العمليّة الأفضل يجب أن تكون على باب «مسجد القائم» بأن يقوم الانتحاريّ الأوّل بتفجير السيارة التي يقودها ثم يتبعه الثاني بعد تجمهر النّاس.

  حينها، بدأت الخطوات التنفيذيّة لـ«الكتائب» بتنفيذ العمليّة، فأعطاه زريقات جهاز هاتف حفّظ فيه 3 أرقام هاتفيّة فقط: الأوّل له، واثنين للانتحاريين. وهكذا، استقبل أبو عباس الانتحاريين ثمّ السيارتين المفخختين: الأولى من نوع «مورانو» وقد تعلّم على قيادتها، والثانية من نوع «مرسيدس»، وقام بركن الإثنتين بالقرب من منزله في مجدل عنجر.

  كان من المفترض أن ينقل الانتحاريّ الأوّل السيارة من صوفر إلى بيروت إلّا أنّه عاد وفجّر نفسه عند حاجز ضهر البيدر إثر الاشتباه به. بعدها، غيّر أبو عباس الخطّة لتصبح «قهوة عسّاف» هي الهدف.

ولذلك، توجّه برفقة الانتحاريّ الثاني إلى الطيونة ـ شاتيلا وأرشده إلى الطريق، حيث فجّر الأخير نفسه من دون أن ينجح في استهداف القهوة.  

كلّ ّذلك، أنكره «العطّار» في استجوابه. دليل براءته هو أنّه لا يعرف الطرّيق إلى بيروت أصلاً، مؤكّداً أنّه لم يسلكها خلال حياته كلّها إلّا ثلاث مرّات: مرتين إلى المطار بقصد السفر إلى العمرة ومرة لتقديم طلب انتساب للجيش اللبنانيّ!  

وحينما سئل لأكثر من مرّة عن رقم هاتفه، كانت الإجابة أقرب إلى الهروب، إذ شدّد على أنّه لا يعرف أرقام هاتفه ولم يحفظها مرة بل كان يكتبها على ورقة ليعطيها إلى من يسأله عن رقمه!

  أمّا عن السيّارة البيضاء من نوع «مرسيدس» التي كانت مركونة إلى جانب منزله، فلفت الانتباه إلى أنّها تعود لعمّه، ولكنّها ليست نفس السيّارة التي استخدمت في تفجير الطيّونة «هي فقط نفس الموديل والبياض».   ولم يكتفِ «العطّار» بالإشارة إلى أنّه لا يعرف زريقات إلا «بالسمع» ولم ينتم إلى «كتائب عبد الله عزّام»، بل يعتقد الشّاب أنّه «مظلوم بهذه القضيّة»، برغم أنّ العميد ابراهيم أكّد له أنّ هناك أدلّة دامغة وصوراً عن السيارات التي ركنت إلى جانب منزله وأوقات تحرّكاته في حينه

  (السفير)