لا تصبح هذه الدولة أو تلك إمبراطورية ما دامت تعتمد في أيٍّ من حاجاتها، صغيرة كانت أو كبيرة، على غيرها. ولم تلبس دولة من الدول (الناقصة) لبوس الإمبراطوريات وهي تحتاج إلى ماء أو دواء، مال أو رجال، سلاح أو عتاد، إلا وهوت بسرعة، كمن طار بأجنحة من شمع فأذابتها الشمس وهي في الهواء. والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ، من أيام الإسكندر المقدوني وإلى اليوم.

ففي الزمن الطويل أقامت دول صغيرة، كبريطانيا وأسبانيا والبرتغال وهولندا إمبراطوريات هائلة، وتوسعت خارج حدودها، ولكنها كانت تحمل بذور هزائمها في أحشائها، لأنها كانت تعتمد في حروبها على تجنيد أبناء الشعوب الضعيفة التي تحتل بلادها، لتغزو بهم بلادا جديدة.

وآخرها، وربما أكبرها وأوسعها، كانت الإمبراطورية العثمانية التي قامت عام 1299 ومدت جناحيها على أنحاء واسعة عديدة من آسيا وأوروبا وأفريقيا. وكان سلطانها مَلكَ العالم دون منازع، ولكنها هوت في النهاية، وتقاسم أعداؤها الكثيرون أسلابها. وها هي اليوم لا تملك من كل ذلك التاريخ الطويل سوى مسلسلات تلفزيونية تدغدغ بها مشاعر مواطنيها القومية الغافية. وللعبرة، فقد كان أول من تمرّد عليها وانضمّ إلى أعدائها ضباطـُها وجنودها أبناءُ الشعوب المستضعفة، وفي طليعتهم العرب الطامحون إلى الحرية والاستقلال.

ومشكلة النظام الإيراني اليوم تكمن في أنه لا يقرأ التاريخ ولا الجغرافيا، ولا يريد أن يقرأ. فقد تملك قادتَه العسكريين والمدنيين، معا، وهْمُ القوة وغرورها، وأعمتهم عنصريتهم وطائفيتهم عن الطريق القويم.

يتباهى كبار معمميهم وقادتهم بدخول ميليشياتهم العراق وسوريا، ناسين، أو متناسين، أنهم تمكنوا من دخول العراق متغطّين بالعباءة الأميركية، وها هم، حتى في معركة الفلوجة الحالية، لا يستطيعون مخالفة القائد العسكري الأميركي وأوامره وإرشاداته.

وفي سوريا كانوا ومازالوا يتدثرون بالراية الروسية، و“يجاهدون” لنصرة الإسلام وآل البيت بسلاح بوتين وطائراته وجنوده. وتقول الأخبار الأخيرة من حلب إن أهمّ ضباطهم وقادة جيوشهم تساقطوا صرعى حين رفع الرئيس الروسي غطاءه عنهم قليلا لفرض أجندته عليهم، وفقا لتفاهماته مع الولايات المتحدة، وهم صاغرون.

مناسبة هذه المقدمة الطويلة ما طيَّره أكبر مسؤول عسكري إيراني، مؤخرا، من كلام كبير فاض يتبجح فيه بما يفعله جنرالاته في سوريا والعراق من خراب بيوت.

فقد أعلن وزير الدفاع الإيراني، حسين دهقان، خلال مؤتمر صحافي، أن “المناطق التي يحتلها الإرهابيون في حلب السورية سوف تتحرّر على يد قوات محور المقاومة”. (لم يحدد هوية هؤلاء الإرهابيين، ولا أسماء تنظيماتهم، ولا أماكن تواجدهم). وبرّر تدخل جيوشه في سوريا والعراق، بالقول “إن جزءا من المجتمع الإسلامي في العراق وسوريا قد تعرض لهجوم، ونحن ندافع الآن عنه، وسنستمر بإرسال المستشارين العسكريين إلى هناك”، “لأن الإسلام والمناطق الإسلامية مهمة بالنسبة إلينا”.

كما أن مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والأفريقية، حسين أمير عبداللهيان، أعلن، هو الآخر، استمرار إرسال القوات إلى العراق وسوريا لـ”مكافحة الإرهاب”. (لم يحدد هوية هؤلاء الإرهابيين، ولا أسماء تنظيماتهم ولا أماكن تواجدهم).وقال “لو لم يكن دعم إيران وإجراءات الجيش وقوات الحشد الشعبي المؤثرة في العراق وسوريا في محاربة الإرهاب، لما كانت اليوم أيّ نقطة في منطقة غرب آسيا الحساسة تشعر بالأمان”.

وكما ترون؛ إن الأمور، كلها، نسبية على طول الخط. فما يراه القادة الإيرانيون نعيما نراه نحن جحيما. وما يرونه أمنا وسلاما نراه نحن احتلالا وتقتيلا وتهجيرا وتدميرا لأمن شعوب لم تبادرهم بعداء ولا بحروب.

لو كانت هذه العنتريات صادرة عن دولة كبرى، بحق، كأميركا أو روسيا، مثلا، لهان الأمر، ولقلنا إنه القضاء والقدر وسوء الطالع الذي أوقعنا تحت أقدام غزاة جبارين لا طاقة لنا على هزمهم، أو على منعهم من استعمار بلادنا، ولو إلى حين. ولكن حين تصدر هذه العنجهيات عن إيران، دون غيرها، فتلك مسألة تدعو إلى الضحك والبكاء معا.

الإمبراطورية التي يبشرنا بها المعممون الإيرانيون، مرارا، ويتباهون بانتصاراتها، ويعلنون أن العراق وسوريا واليمن ولبنان أصبحت من مستعمراتها، بعيدة عن شواربهم، وعن عمائمهم أيضا. وليس هذا اختراعا مني، بل هو الحق الذي يعرفه العرب والعجم والعالم أجمعون. لأن ما حدث من اختراقات وتدخلات إيرانية في العراق وسوريا لم يتحقق بفعل عبقرية حسن دهقان ولا اللهيان ولا قاسم سليماني وحسن نصرالله وهادي العامري، بل بما حكمت به مصالح أميركا وروسيا، ودول انتهازية عديدة أخرى في العالم، لها مخططاتها التي سمحت للنظام الطائفي الإيراني بالتسلل إلى بلادنا من أجل إشعال الحرائق في بيوتنا، لأغراض نعلمها، ويعلمها الله ورسوله والولي الفقيه.

هذه حقيقة لا ينكرها حتى الإيرانيون المعارضون للنظام الذي يكمم أفواههم بقوة الباسيج، وحبال المشانق والاعتقال.

ويبدو أن العصبية القومية الفائرة، تسببت في عمى البصر والبصيرة لدى وزير الدفاع الإيراني ورفاقه “المجاهدين” الإيرانيين، وجعلهم لا يسمعون التاريخ الذي يقول إن لتلك المصالح مواسم وفصولا تتقلب فيها وتتبدل وتتغير، وإن أسهل شيء على دول، كأميركا وروسيا وأمثالهما، أن تستغني عن أدواتها القديمة بأخرى جديدة، بجرّة قلم أو ركلة قدم، وربما بأسرع من ذلك بكثير.

والمهم أن إيران، مهما تبجح دهقان واللهيان، تبقى دولة من دول العالم الثالث، يصعب أن تسمح لها القوى الكبرى المهيمنة على العالم اليوم بأن تكبر أكثر من المقرر والمسموح، وأطول من الزمن المقنن والمرسوم.

فهي، وبشهادة منظمات عالمية محايدة عديدة، دولةٌ غارقة في همومها ومشكلاتها الداخلية إلى حد أنها أصبحت الدولة الأكثر في العالم كله إعداما واغتيالا وتعذيبا لمعارضيها من أبنائها. ومن اللازم هنا أن نتذكر نظرية أطلقها روبرت ماكنمارا الذي كان وزير الدفاع في عهد الرئيس جون كندي عام 1962 تقول “لنجعل الاتحاد السوفييتي قلعة مسلحة، ولكن لا تملك الزبدة”.

وبالفعل أجبرت أميركا وحلفاؤها الاتحادَ السوفييتي على دخول سباق تسلح تقليدي ونووي هائل، وأدخلوه في حروب باردة وساخنة في جمهورياته المتعددة، أنفق بسببها نصف ثرواته على السلاح النووي والتقليدي حتى أصبح قوة نووية هائلة، ولكن بشعب يعيش على أقل من الكفاف، الأمر الذي جعله يتهاوى على يد ميخائيل غورباتشوف من الداخل ودون حروب.

وإيران اليوم واقعة في نفس اللعبة الخادعة. فتعالوا ودققوا حجم إنفاق النظام الإيراني على مشروعها النووي، وعلى شراء الأسلحة المتطورة. واحسبوا كم أحرقت من أموال على إشعال الحرائق في العراق وسوريا ولبنان واليمن والسودان والبحرين، وعلى تدبير المؤامرات هنا وهناك، وعلى تمويل المنظمات والميليشيات، وتسليح وتدريب الآلاف من القتلة الإرهابيين، شيعة وسنة. وابحثوا في آثار العقوبات الدولية على الاقتصاد الإيراني وانعكاساتها على الإيرانيين بسبب هوس الحكام بأوهام القوة.

ثم فتشوا، بعد ذلك، عن الضرورة الوطنية والقومية والدينية التي حكمت على الولي الفقيه بأن يناطح العالم، ويدفعه إلى فرض العقوبات على شعبه عشرات السنين، وصُنع التعاسة للملايين الإيرانية المُتعبة، من أجل أن يمتلك سلاحا نوويا يجبر به العالم على تتويجه ملكا على المنطقة وعلى تسليمه مفاتيح الدول العربية وثرواتها، ثم يركع قبل سواه، ويتخلى عن ذلك الحلم الذي شاغل به شعبه سنوات طويلة، فلا يطلب ثمنا لتراجعه سوى أن يرفع الأميركان وحلفاؤهم عن نظامه البعض من تلك العقوبات، وأن يعيدوا له البعض من أموال شعبه المحتجزة منذ سنوات. أليس هذا نوعا من أنواع الخبل؟

تقول دراسة أجراها معهد غالوب للدراسات إن أتعس دولتين في العالم هما إيران والعراق. وأشارت إلى أن أهم أسباب تعاسة الإيرانيين هو ارتفاع معدلات البطالة وتقييد الحريات، فضلا عن الآثار السيئة للعقوبات الدولية على النظام.

كل ذلك لم يمنع دهقان عن المفاخرة بالقوة، والتهديد بحروب جديدة، والمنطق والعقل يقولان إن القوي الواثق من قوته لا يتبجح، ولا يهدّد، ولا يتطاول على أحد، بل يترك قوته تتحدث عنه وترهب خصومه دون كلام؛ إنه بحاجة إلى عينين ليقرأ بهما التاريخ، وأذنين ليسمع بهما الملايين من العرب والمسلمين وهي تلعن الذي يجعل الباطل حقا، والحرب سلاما، وتبشر القاتل بالقتل ولو بعد حين.

 

العرب :إبراهيم الزبيدي