تضرب مدينة طرابلس شمال لبنان، الأحد، موعدا مع حدث مهم وهو الانتخابات البلدية والاختيارية، والتي تتخذ هذه المرة بعدا جديدا لجهة التحالفات المثيرة خاصة تلك التي تجمع رئيس تيار المستقبل سعد الحريري ورئيس الوزراء الأسبق نجيب ميقاتي.

وتتنافس في طرابلس أربع لوائح هي لائحة “لطرابلس” التي تضم تحالف الحريري ميقاتي، ولائحة “قرار طرابلس” التي يدعمها وزير العدل المستقيل أشرف ريفي، ولائحة “طرابلس عاصمة” التي يدعمها النائب السابق مصباح الأحدب، ولائحة “طرابلس 2022” التي شكلها المجتمع المدني.   وتنحصر المعركة وفق المحللين بين لائحتي “لطرابلس” و”قرار طرابلس”.

وكان لافتا تعدد الأشكال التي اتخذتها هذه المعركة وتنوع دلالاتها.   بعض الآراء اعتبرتها صراعا بين الطبقات الميسورة والفقراء، وصراع القوى المتماهية مع حزب الله وبقايا النظام السوري ضد رافضي العودة إلى منطق زمن الوصاية.  

واتخذت المعركة كذلك كما عبرت عنها تصريحات أشرف ريفي طابع المواجهة بين السكان وبين القوى السياسية التقليدية، حيث صرح في جولة له على المناطق الشعبية في المنطقة أن الهدف من خوض المعركة الانتخابية البلدية هو تغيير كل التركيبة السياسية الحالية.  

وحرص الوزير أشرف ريفي في حملته الانتخابية التي أطلقها مبكرا، على التمايز عن النخبة السياسية القائمة، معتبرا نفسه ممثلا للتغيير، والناطق باسمه. وهذا الخطاب يلاقي صدى كبيرا في صفوف سكان المدينة التي تعاني من ارتفاع في مؤشرات البطالة، فضلا عن غياب التنمية واهتراء الخدمات.  

هذه العناوين المعلنة للمعركة تستبطن عناوين أكثر راديكالية تتعلق برمزية دلالة الانتخابات البلدية على قوة الزعامة السنية لكل من الثلاثي ميقاتي والحريري وريفي.

  ويطرح ميقاتي نفسه بوصفه الشخصية الأكثر نفوذا في العاصمة الشمالية، ويعول في ذلك على قدراته المالية التي لم تتأثر كثيرا باندلاع الأزمات في المنطقة، فمازالت المؤسسات العائدة له تقدم خدماتها الاجتماعية والإنمائية بشكل منتظم، في حين تراجع كثيرا الدعم التي كان يقدمه رئيس تيار المستقبل سعد الحريري للمدينة وأهلها.  

وهكذا تنبني قوة ميقاتي في طرابلس انطلاقا من كونه رب عمل يمون على عماله الذين ترتبط مصالحهم به، ولا يمكنهم تاليا الخروج من إطار الدائرة الاقتصادية ولا السياسية لقراراته.

  ويسعى ميقاتي إلى تحويل هذا الواقع إلى شكل خاص من الزعامة السنية المرتبطة برعاية شبكة مصالح الجمهور السني في عاصمة الشمال.   ويقدم من جهته سعد الحريري نفسه في المعركة كضابط إيقاع لحركة المزاج السني عموما، لناحية الحرص على توحيد الصف السني، وتجنب الصراعات الداخلية، ومنع انزلاق السنة في اتجاه التطرف.

  كذلك يقدم نفسه كصاحب مشروع سياسي تاريخي ومستمر في الآن نفسه، هو الحريرية الذي يعتبرها صلة وصل المحيط السني اللبناني بالمحيط العربي وخطة عمل دائمة تمثل خصوصية الوجود السني اللبناني، وخارطة عمله التي لا تستطيع تحولات سياسية محدودة أن تضعف من أثرها.

  ويتخذ التحالف مع ميقاتي في نظر الحريري صيغة تكريس الحريرية كمنتجة لخطاب توافق، لن تكون النتيجة التي ستسفر عنه سوى صب زيت جديد في محركات الحريرية الإنمائية والسياسية.

  ويعتبر الحريري انطلاقا من المعلومات التي تشير إلى أن الدول الخليجية وعلى رأسها السعودية باتت داعمة لمنطق تعددية الزعامة السنية حفاظا على وحدة قرارها، أن هذه التعددية يمكن أن تجير في النهاية لصالحه، وفي هذا الإطار يصب تحالفه مع ميقاتي.

  وفي المقابل يحمل وزير العدل أشرف ريفي طموحات وقراءات مختلفة ومتناقضة مع الحريري وميقاتي ومبنية على تحولات جدية في بنية المزاج الطرابلسي.  

وقد لا تكون هذه التحولات راديكالية وحاسمة، ولكن لا يمكن التقليل من شأنها ومن قدرتها في دفع ريفي نحو موضع أفضل على خارطة الزعامات السنية في لبنان.  

ويخاطب ريفي الناس من منطق التماهي التام مع عقليتهم، ومشاكلهم، وطموحاتهم، ومع أن خطابه الانتخابي البلدي يدرج الحريرية في عداد القوى التي يجب تغييرها فإنه لم يفصل نفسه عنها، بل لا يزال يدعي النطق باسمها، لا بل يعتبر نفسه صاحبها معتمدا في ذلك على تراث من الإنجازات الأمنية والدور البارز في ملف المحكمة الدولية. وهكذا يركب ريفي لنفسه صورة وكأنه قائد حركة تصحيح الحريرية من ناحية، وبطل الجمهور السني المهمش من ناحية أخرى.

  ويحرص ريفي على الخروج من صورة السياسي التي باتت مرفوضة في الوسط الطرابلسي، ويقدم نفسه بوصفه “ابن بلد” كما يقول التعبير اللبناني.  

ويبتكر ريفي من ناحية أخرى خلطة عاطفية وسياسية متماسكة حاملة لملامح مؤثرة في الوسط السني عموما والطرابلسي خصوصا. فالشارع الطرابلسي يحمل بشكل خاص جروحا عميقة من مرحلة الوجود السوري في لبنان، وهي جروح لم تندمل بعد، ويؤججها في كل حين الطابع الذي اتخذته الحرب الأهلية في سوريا والتي ينظر إليها قسم كبير من أهل طرابلس على أنها حرب النظام العلوي على السنة.  

وهذا العنوان جعل من تأييد رفعت عيد، الشخصية العلوية المؤيدة للنظام السوري، للائحة التوافق عاملا يصب معنويا، وربما ماديا، في صالح دعم خطاب ريفي الذي يعزف على وتر الحساسية الطرابلسية من النظام السوري.   وللصراع على الزعامة السنية في لبنان، سلبياته الكثيرة، وفي مقدمتها تعميق الانقسام السني وتغذية التطرف، وبالتالي إضعاف المكون وهو ما يسعى إليه الخصوم.

صحيفة العرب