بعد أيام (أي في 30 أيار 2016، وفي الخامسة عصراً) يقوم "ملتقى الأديان والثقافات للتنمية والحوار"، بتكريم سيادة المطران جورج خضر، (في قصر الأونيسكو في بيروت)، إن المناسبة التكريمية هذه، تدفعنا إلى القول: إن كل تكريم لرمز من رموزنا الوطنية، التوحيدية الكبرى والجامعة، ما هو إلا خطوة، لا بد لنا من الثناء عليها ومباركتها، ذلك لأنها خطوة عملانيّة، إذ هي تُدلي بدلوها، أو هي تصب حتماً، في مجال التوعية على تصويب البوصلة، من أجل العمل على التوصل، إلى إيجاد قواعد تحقيق لبنان، الذي ينشُد تحقيقه هؤلاء الرموز الذين هم بمثابة شموع تضيءُ ظلام تفرقتنا وانقساماتنا العمودية الحادّة، وذلك نسبة لمجاهداتهم الفكرية الخلاَّقة والبنّاءة، ومن خلال اجتهاداتهم العقلانية التنويرية الواضحة، بل المبهرة، والهادفة إلى انتشالنا كلبنانيين، من مهاوي رَدَى هواننا المُرّ والمُخجل في آن معاً.

  فلبنان الذي يصبو إليه هؤلاء، هو لبنان الوطن أولاً لجميع أهله، على السواء، وقبل وبعد كل شيء، ومن ثم فهو لبنان: المحبّة والسلام والحوار والتّلاقي والعدل والقانون والمؤسسات... والشّراكة الفعلية، والتي من شأنها أن تلغي – نهائياً - مصطلح "العيش المشترك"، من أدبياتنا الوطنية، هذا المصطلح الذي هو صفة/ بِدْعةٌ في الأصل، وكما نراها. إذ ليس من وطنٍ في الدّنيا، كبيراً كان أم صغيراً، مرَّت "في أجواء" أدبياته الوطنية، هذه الصفة، ولو بشكل عابرٍ حتّى.  

وعلى خلفية ما سبق، فإن المطران جورج خضر، هو أحد رموزنا الأعلام، الذين أشرنا إليهم. ولقد جاء في دعوة التكريم ما يلي: "تقديراً لقيمته العِلمية واللاهوتية ولدوره في تعزيز الحوار بين الأديان والثقافات، يكرِّم "ملتقى الأديان والثقافات للتنمية والحوار"، سيادة المطران جورج خضر (متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان) للروم الأرثوذكس).

  فالمطران جورج خضر، هذا الرسولي/ الدّاعية إلى الحقّ، وعلى ما تشهد به وله، نضوحاً كتاباته كافة، وعظاته الكنسية طبعاً، هو أيضاً، شاعر وباحث، وأديب، ومفكّر نضاليّ بالموقف الصريح والواضح، والكلمة الصادقة، والموعظة الحسنة، ولقد وضع كل إمكاناته الفكرية في خدمة الإنسان، وذلك متمثّل في سيره الحثيث والمضني، على درب الجلجلة التنويرية، أسوة بيسوع المسيح(ع): السيد، الفادي، المعلِّم والمخلِّص...   فالمطران جورج خضر هو صاحب الخطاب اللاهوتيّ الحِواريّ المعتدل والخلاّق والبنّاء، إذ إنني، ونظراً إلى ما تسنَّى لي شخصياً، قراءته من كتاباته/ مقالاته المتنوِّعة الموضوعات، في جريدة "النهار"، لا بدَّ لي من القول: بأن المطران جورج خضر – كقامة عالية روحيّا ووطنياً – هو اللاهوتي اللاَّإيديولوجي، أي الدّاعية الحداثوي المجرَّد من الأهواء التبشيريّة الجهويّة أو الفئوية، ذلك لأنني، وفي كلّ ما قرأته له، وجدتني أمام خطاب دينيّ ووطنيّ زمني وروحيّ، يستحيل تصنيفه – وبالنسبة لي على الأقلّ – أهو خطابٌ مسيحيّ أم هو خطابٌ إسلاميّ؟ إذ إن محمول نصّه يغلي بقيمٍ تُجسد أعماق جوهرٍ دينيّ إطلاقيّ أصيل، انطلاقاً وسيرورة وأهدافاً شاملة، وهذا عائد إلى أن هذا المحمول عامر باستشهادات قرآنية وما يتناسل من نسغها، إلى جانب استشهادات إنجيلية، وما يتناسل من نسغها أيضاً، في مواضع متشابهة وحساسة، لناحية الدلالات والمعاني، إذ إن روحانية مضمون النص هنا، نابعة برمتها من أن الله تعالى هو نور السموات والأرض.  

من هنا نرى إلى كتابات المطران خضر، أنها تشيل بقارئها، من ضِيْقِ محدودية الآفاق المنغلقة على ذاتها إلى رحاب الكونيّة الإنسانيّة المطلقة. إذ هي كتابات ترشدك إلى أن الدِّين إنما وُجد لخدمة الإنسان وليس العكس، وفي هذا الصدد يقول: "ليست الكنيسة شيئاً آخر عن المجتمع". ويقول: إنّ مضمون كلمة نور، في الأساس، في ديانات التوحيد الثلاث، واحدٌ، إذ النور هو الله وحده، من حيث هو مَصْدرٌ ومُنْطَلَقٌ وإنارةٌ هي منه ولو كره الكارهون.  

ويشرح: "إذا كانت الجماعات الدينية كلها تطلب النور واهتداءها به، يبقى علينا جميعاً واجب تجاه الحقيقة، هو، قبل كل شيء، أن نُحبّ الله، ليس فقط في ذاته، ولكن في إشعاعاته على الآخرين في نصوصهم التأسيسية. إذِ المفروض على كل من علَّم دينه لأبناء دينه أن يكشف النور في دين الآخر، فإن هذا لا ينتقص من تعلُّقنا بديانتنا. كما يبدو النّور ساقطاً عليها.

قبل خوض الحوار بمعناه العقليّ، الموقف الوجداني القائم على الصِّدق أوّلاً، هو أن نعترف أنّ هذا الجانب أو ذاك من عقائد الآخر أو أخلاقياته، متصل نُوْرٌ بها أو هو فيها، وأنّ خيطاً من ذهب، تالياً يربطنا بعضنا ببعض لأنّ الصراع هو بين النور والظلمة.

وبتابع: إذا كنت تدين بدين فلستَ برافض تحديداً كلّ شيءٍ آخَر "أُدين بدين الحُبّ أنّى توجهّتْ ركائبه"، إن رأيت أنواراً خارج سُورك فأنتَ منها، لأنك تطلب الحُبّ الذي يبثّ رسائله هنا وهناك. هذا هو الانفتاح الحقيقيّ الذي ينجّي نفسك اليوم وفي القيامة.  

وهذه البركات يمكن أن تحلّ على عامّة الناس، وليس فقط على العلماء. فالقلب المستنير يرى ما لا تراه، أحياناً عقول عظيمة. لذا فهو ينصح: قبل ولوج باب الانفتاح الوجدانيّ على الآخر المبتغى أن تجعل نفسك دائماً في إشراف الله عليك، بحيث يكون وحده سيّد قلبك، وتكون باستمرار في حالة التّوبة إليه. ما عدا ذلك ليس مِن نور. ما عدا ذلك أنتَ أسير اللفظ الديني والمعنى اللغويّ للكلمات وأداء طقوس لا تحسّ بدفئها.

  ويشير: هؤلاء الذين يسيرون في قلوبهم وراء الله، الحاجّون إلى وجهه المبارك هم جماعته وأحبّاؤه، فإنهم قد استناروا بضيائه كائنة ما كانت مسالكهم. أنا لستُ أوحِّد بين الأديان، ولا أقول إنها تقول القول الواحد، لكنّي أرى الله في أَتْبَاعِ الله أنَّى كانوا وأتبرَّك بهم. من حجّ إلى الله، إلى كيانه، إلى أضوائه، فهذا أخي وليس عند المحبين حدود. ليس المهم فقط أن الله نور لكن المهم أيضاً أن الرَّبَّ يُنير من يشاء والنور فيَّ يحنُّ إلى النّور فيكَ.  

هذا مما يقوله على الصعيد الدِّيني، أما على الصعيد الوطني فلبنان "وطنُ الرّوح"، وهذا هو عنوان قصيدة طويلة له. ويقول: "أنت في حاجة إلى وطن قادرٍ على أن يستوعب بنِيه بحضارةٍ له حقيقيّة تُترجَمُ أوّلاً في نظام الدّولة، وانتظام المجموعات الطائفيّة بعضها ببعض، على أساس تسامُح لا نفاق فيه، وعلى أساس اكتمال الكلّ بالكلّ، في المعرفة والقدرة وإلغاء الطائفية كاملةً، في الإدارة العليا. فأنا الأسقف الأرثوذكسيّ، أرفض مثلاً أنْ يُعيَّن أرثوذكسيّ تافه جاهل، في منصب يستحقه مسلم أو مسيحيّ، من انتماء آخر.   ويقول حول وحدة اللبنانيين التعدّدية: "إذا أردتم أن نتقارب في العمق فاقصدوا المسيحيّين والمسلمين على السّواء.

وأوّل المتقاربين، في هذا المجال، اللبنانيون الذين يتعايشون في صدقٍ. هذه القاعدة المعرفيّة والمتشرِّبة، للرّوح الإلهيّ قائمة وستقوى. وهذه تنقذنا من السياسة السياسيّة، فتجدْ نفسك، أياً يكن انتماؤك، على قُرْبَى سياسيّة، مع ناسٍ ليسوا من دينك يحيون ملكوت الله في القلوب.

هذا هو المكوِّن الأساسيّ لوحدتنا الوطنيّة على التَّنوُّع.   لذا نراه يدعو إلى السَّعي من أجل تحقيق "لبنان الإلهيّ" (وهذه التّسمية هي حرفيّة عنوان مقالٍ له) يقول فيه: "لبنان لن يصير شيئاً ما لم يكن شعبه قد صار عظيماً بِتحرُّر الكثيرين من الكذب، ومن عبادة المال والسّلطة والأنا المقيتة العدوّة للشّراكة. بلدنا يتحقّق في كلّ أفراده، في سموٍّ يتعالى في رؤيته للحقّ، والتّعالي هو التّواضع والافتقار إلى الكمالات الرّوحيّة، التي ليست من هذا التّراب ولا الزّمان الشِّرير.

  السياسة تقوم من صُنْعنا الحياة العليا الكامنة في النّفْس. لبنان الرَّسميّ يصنعه شعبنا المغتذي من الحقيقة والطّهارة والبِرّ والذّكاء الذي يجيءُ منها. بلدنا يصير جميلاً مِن سطوع الحقيقة فيه وهي وحدها بهاؤه.

  كيف نصير إلى هذه الحقيقة، يبدأ بقيام كلّ واحدٍ منّا على الكُفْر بالذّات، أي على الكفر بما كُنّا، في جهالاتنا، نعتبره الذات من شهوات المال والسلطة والكذب والانطواء على الأنا الفارغة القاتلة للآخرين. لبنان هو شعبه العظيم، ليس أمجاداً زائفة تقوم على الادعاء، ولكن في المجد الإلهي القائم في قلب الإنسان الذي يذوق قِيَمَ الله.

  أحمد ياسين