ألقى العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

"عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بقراءة مناجاة أمير المؤمنين، التي سميت بالمناجاة الشعبانية.. بأن نناجي الله بها، لنعبر من خلالها، كما كان يعبر الإمام علي، عن حبنا لله وخشيتنا منه، وحرصنا على الدنو منه.. حتى نحظى برحمته في الدنيا والآخرة. وكان من مناجاته: "إلهي إن كنت غير مستأهل لرحمتك، فأنت أهل لأن تجود علي بفضل سعتك، إلهي لم يزل برك علي أيام حياتي، فلا تقطع برك عني في مماتي، إلهي كيف آيس من حسن نظرك لي بعد مماتي، وأنت لم تولني إلا الجميل في حياتي".

اضاف: "أيها الأحبة، إننا أحوج ما نكون وسط ضجيج الحياة من حولنا، والصراع الجاري على الدنيا، والتهافت على السلطة، إلى أن نستعين على أنفسنا الأمارة بالسوء، وعلى الشيطان وخدعه ومكره، بهذه النفحات الروحية، التي تصور لنا الطريق، وتوضح لنا المسار، وتشعرنا بأن أغلى ما نصل إليه في الحياة هو حب الله لنا.. والشعور باحتضانه.. والإحساس بأننا لسنا بعيدين عنه.. والحصول على رضاه.. هذا ما نراه في فقرات المناجاة، وهذا ما ينبغي أن نحرص على أن نعيشه في الليلة المباركة؛ ليلة الخامس عشر من شهر شعبان؛ أن نحيي هذه الليلة بما ورد فيها من أدعية وأذكار، وأن لا تفوتنا.. فقد ورد في الحديث: "هي ليلة عظيمة الشرف، هي أفضل ليلة بعد ليلة القدر، فيها يمنح الله العباد فضله، ويغفر لهم بمنه، فاجتهدوا في القربة إلى الله فيها، فإنها ليلة آلى الله على نفسه ألا يرد سائلا فيها. فلنحرص على أن نستفيد من هذه المواسم الروحية.. فهي فرصتنا حتى نخشى موقفنا عند الله، وهي تعيننا في الدنيا على نيل الأمنيات ومواجهة التحديات".

وتابع: "البداية مما يجري في العالم من إحياء مئوية "سايكس بيكو"، وهي الاتفاقية السرية التي جرت في العام 1916 بعد الحرب العالمية الأولى، بين ممثلي فرنسا وإنكلترا، لتقاسم النفوذ في ما بينهم على مناطق سيطرة السلطنة العثمانية، بعد هزيمة محورها أمام محور الحلفاء الذي كانت تتصدره فرنسا وإنكلترا، ولترسيم حدود الدول العربية بالصورة التي هي عليها الآن، وقد روعيت في هذا التقسيم، كما هو واضح، مصالح الدولتين، وقدرتهما على الهيمنة على هذا العالم العربي الواعد بتاريخه وقدراته البشرية وثروته الطبيعية".

وأكد "ان هذه الاتفاقية شكلت بداية مرحلة جديدة بدا معها العالم العربي مجموعة كيانات منفصلة متباعدة، وفي بعض الحالات متناحرة، حيث أسس لهوية كيانية على حساب الهوية الجامعة العربية أو الإسلامية، ما أضعف قوة هذا العالم وفتته، وسمح بعد ذلك بعقد "وعد بلفور"، وساهم في وجود الكيان الصهيوني".

وقال: "نحن اليوم، وعند استذكارنا لما جرى، لا نريد الإيحاء بإلغاء كيانات بنيت وتجذرت، بقدر ما نريد الإشارة إلى ضرورة تفويت الفرصة على الذين أرادوا من هذه الاتفاقية تفتيت قوة العالم العربي، وذلك من خلال تفعيل مواقع الوحدة لديه، وعدم إضعافها وتهميشها، والمزيد من التماسك في مواجهة قضاياه المشتركة والتحديات التي تواجهه، من العولمة العسكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية. ففي ظل سعي العالم الآخر إلى توحيد قدراته وإمكاناته، لا يمكن أن تواجه هذه التكتلات والوحدات، بدول متفرقة أو متناحرة".

اضاف: "في الوقت نفسه، لا بد من أن لا نفتت العالم العربي بأيدينا، كما يحصل الآن، وأن لا نسمح للاعبين الجدد بخلق مناخات لاتفاقيات جديدة تساهم في مزيد من التفتيت، بحيث يترحم عندها على ما جرى للمنطقة في "سايكس بيكو"، وإن كان لا ينبغي الترحم عليها، حيث يكثر الحديث الآن عن رسم خرائط جديدة للمنطقة، تبنى هذه المرة على أساس كيانات طائفية ومذهبية وإثنية، والأسوأ من ذلك، أنه يراد أن يتم ذلك بدمائنا وجراحاتنا وآلامنا، وباستدراجنا إلى صراعات نعتقد من خلالها أننا نخدم ديننا أو مذهبنا أو قوميتنا، فيما نحن نخدم سياسات الآخرين، التي تسعى إلى إضعافنا وإسقاطنا وهزيمتنا".

وأعلن "ان حديث التقسيم والفدرلة بات علنيا. ومع الأسف، بات البعض يسوق له، ويراه ضروريا، وينسى أن وراء ذلك مشاريع حرب واستنزافا مستمرا"، وقال: "إننا معنيون في هذه المرحلة بالوقوف في وجه كل هذه المشاريع، بحيث يكون قدر الأمة أن تمتن وحدتها، لا أن تكون في مهب رياح الآخرين، فكما ضاعت فلسطين في "سايكس بيكو"، فقد يستكمل ضياعها مع ضياع بلدان أخرى".

وتابع: "نعود إلى لبنان، الذي يدخل مرحلة جديدة من الانتخابات البلدية، التي نريدها أن تعبر عن مزاج جديد للبنانيين، وعن رغبة في التغيير تطاول الذين أفسدوا وأساؤوا إلى إنسان هذا البلد وصحته ومستقبله في أي انتخابات مقبلة، بحيث يخرج اللبنانيون من النقد والتأفف إلى صنع القرار، لعل ذلك يساهم في جعل أغلب الطبقة السياسية تعيد النظر في حساباتها، فلا تعمل وفقا لارتباطاتها أو علاقاتها بهذه الدولة أو تلك، أو بهذا المحور أو ذاك، بل تعمل لحساب من قرر أن يعاتب ويحاسب ويغير، وهذا لا يعني إلغاء دور الخارج وتأثيراته وتعقيداته، ولكننا ما زلنا نعتقد أن الطبقة السياسية لو أرادت، فهي قادرة على اجتراح الحلول وإيجاد المخارج، وهي جاهزة لذلك، ولكن هناك من يصر على أن ينتظر انتصارا هنا أو هناك، يقوي به موقعه الداخلي، والبعض يريد أن يكون ملكيا أكثر من الملك".

وأعلن "اننا ننتظر عقلية جديدة من اللبنانيين، يشعر معها جميع السياسيين بأنهم لم يعودوا مالكين لمفاتيح طوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم، بل باتت المفاتيح في أيدي الناس، الذين قرروا أن لا يعطوها إلا لمن يحسن الإمساك بها، لا الذين يأخذونهم حيث لا يريدون".

وختم: "في هذا الوقت، تبرز أزمة المصارف التي باتت تقض مضاجع اللبنانيين، نظرا إلى تداعياتها. ونحن في هذا المجال، وبعيدا عن مشروعية هذه الضغوط المالية أو عدمها، وفي ظل عدم تعريف عالمي واضح للإرهاب، نؤكد أهمية حفظ هذا القطاع الأساسي، ولكن بطريقة لا تسيء إلى فئات واسعة من اللبنانيين.. حيث باتت بعض المصارف تعمل على توسيع دائرة المستهدفين، بحيث تشمل أولئك الذين لا يشملهم القانون الأميركي الذي ترضخ له. إننا ندعو الدولة اللبنانية، ولا سيما جمعية المصارف، إلى تحمل المسؤولية في الحفاظ على حقوق اللبنانيين ومصالحهم.. والتعامل مع هذه القرارات بحكمة ودقة وحرص شديد".