في الوقت الذي تستمر فيه الدول الكبرى بالتنازع حول مصالحها عبر الحروب التي تشنّها بالوكالة خارج أراضيها، لم يكن ينقص العلاقات بين روسيا وتركيا أي توتّر إضافي، خاصة أنّ ضرورة إرساء تفاهم بين البلدين تتأكد يوماً بعد يوم.

 

لكن قرار أنقرة الأخير بالإفراج عن المسؤول عن مقتل قائد مقاتلة روسية بعد إسقاطها فوق الأراضي السورية في أواخر العام المنصرم، زاد الطينة بلّة، وسعّر تسابق الدولتين على النفوذ في الشرق الأوسط، خاصة في سوريا، بالتوازي مع صراعهما في البحر الأسود والقوقاز.

موسكو طالبت أنقرة بالإعتذار إليها عقب إسقاط الطائرة كما أصرّت على محاكمة "القاتل"، في خطوتين من شأنهما الدفع باتجاه تحسين العلاقات الثنائية. لكن رفض تركيا الداعمة بشدّة لمجموعات مسلحة تقاتل الجيش السوري وتساهم في محاولات إالإطاحة بالرئيس بشار الأسد، وإفراجها عمّن عمد إلى قتل عنصر القوات الجوية الروسية وهو يغطّ بمظلّته بعد إسقاط طائرته، لا يبشّر بمصالحة بين اللدودين، علماً أنّ "القاتل" بعث برسالة في أوائل شهر نيسان إلى الخارجية الروسية، يحثّ فيها بإسم تركيا، على "السلم" و"الحوار المفتوح" بين موسكو وأنقرة.

قرار الإفراج جاء مستفزّاً، سيّما وأنّ بعيد اتخاذه، قامت أنقرة بشنّ غارة شمالي سوريا حيث أقرّت رسمياً وللمرة الأولى بإرسالها قوات خاصة للمشاركة مباشرة في القتال ضد "داعش" واستهداف المنصة الصاروخية الذي أطلق منها التنظيم الإرهابي صواريخه على بلدة كيلس التركية.

لكنّ اللافت هو أنّ تركيا قامت بإعلام روسيا والولايات المتحدة مسبقاً بالغارة التي شنتها على مقربة من النطاق الجوي الذي تدور فيه المقاتلات الروسية، من دون أي احتكاك بين الجانبين، في ما يعتبر إشارة إلى انفتاح تركي على تعاون عسكري مع روسيا في سوريا. وما كانت الرسالة التركية إلى الخارجية الروسية سوى بلورة لهذا الانفتاح؛ فالغارة التركية حدّت فعلياً من قابلية روسيا لاستهداف القوات التركية في الأراضي السورية.

ولكن، رغم التشنّج الواضح في العلاقات الثنائية بين الغريمتين، لروسيا وتركيا أهداف مشتركة في سوريا، لعلّ أبرزها القضاء على "داعش".

وفي حين كان يمكن لتركيا أن توسّع نطاق الإستهداف بغارتها، جاءت الضربة المحدودة نسبياً لتقطع الطريق على مسبقاً أي اعتراض روسي، الأمر الذي يشير إلى أنّ غياب المصالحة مع تركيا يتيح لروسيا الإستمرار في إدانة النشاطات التركية في سوريا، خاصة في ظلّ رفض موسكو لمحاولات تركيا إنشاء منطقة آمنة على حدودها مع جارتها المنكوبة.

فضلاً عن ذلك، ترتبط الدولتان بمصالح إقتصادية أساسية بحيث لا يمكن لهما تعريضها للخطر عبر تصعيد التوتر في العلاقات الثنائية.

في كافة الحسابات، يفرض التفاهم الروسي-التركي نفسه كلاعب أساسي في المعادلة الرامية إلى موازنة العلاقات بين البلدين.

وعلى الرغم من أنّ قرار الإفراج بدا مستفزاً وأشبه بتحدٍّ للصلابة الروسية، فله مرمى استراتيجي مفاده أنّ حسن العلاقات بين البلدين ليس رهناً بقرار جاءت ظروفه وتداعياته سياسية أكثر منها عدلية (!) وأنّ تركيا لا تزال تتمسك بطموحها لإرساء موطئ قدم لها في سوريا.

بناء على ما تقدّم، يمكن القول إنّ نسيج العلاقة الحسنة بين روسيا وتركيا لا يزال قيد الحياكة، وإنّ حصول مصالحة بين الغريمتين مستبعدٌ في الوقت الراهن.

( لبنان 24 - Geopolitical Diary)