طهران طلبت من روسيا النزول في سوريا. طهران كما أكدت مرارا، كانت قد وصلت إلى قناعة بأن الرئيس بشار الأسد في خطر، وأن سقوط النظام أصبح مسألة وقت، فاستجارت «بالقيصر» فلاديمير بوتين. درس «القيصر» الطلب بعناية، فوجد أن العودة بقوة إلى الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط بهذه الطريقة قوية، وان كانت مكلفة، وانها تأتي في الوقت المناسب للثأر من «خديعة» ليبيا، ولتفكيك الحصار عليه في أوكرانيا، وفتح منفذ له على المدى المتوسط للتفاوض عليها من موقع قوة. 

أرسل «القيصر» «شيئا» من سلاحه الجوي للتدخل. بهذا تفادى الغرق في «المستنقع» البري وعدم «أفغنة» وجوده العسكري، وأوقف من جهة أخرى انهيار الأسد ونظامه، وبالتالي تفكك الاستراتيجية الإيرانية، والاضطرار إلى التراجع العميق. طهران لا يمكنها الانسحاب من سوريا، مهما بلغت الكلفة المادية والبشرية، بينما موسكو، انسحبت فجأة. حتى لو كان انسحابها محدودا أو بحساب، فإنها جعلت عودتها بقوة رهنا بالتطور الميداني، وبطبيعة الحال بتكرار الطلب الإيراني بالمساعدة والدعم العاجلين. لذلك خطة موسكو تتبلور يوما بعد يوم. لا يريد «القيصر» أن يسقط الأسد حاليا لكنه مستعد للمقايضة.. كلما طال وجوده نجح في «قضم» جزء من حصة ايران. الحاجة للآخر تدفع إلى تقديم التنازلات وايران هي المحتاجة.

ما يضاعف تعميق هذا الوضع، أن طهران بحاجة إلى موسكو في ميدانين:

- السلاح: لأنه ليس أمام طهران من سوق للسلاح المتطور مثل السوخوي 30 والدبابة تي 95 سوى موسكو.

- النووي: مهما تقدمت طهران في القطاع النووي فإنها بحاجة إلى موسكو لمدها بالمفاعلات النووية وتنقيتها ودعمها أمام باقي أعضاء مجموعة الخمسة زائد واحد.

موسكو لديها استراتيجيتها وهمومها الكبيرة. «القيصر» يريد أن تصبح بلاده شريكة في القرار مع واشنطن، ولو عبر «حرب باردة صغيرة». كلما نسق مع واشنطن حقق مكاسب إضافية لأنها بذلك ستدعمه في قراراته السورية وفي التعامل مع أوروبا. في الوقت نفسه تكسب واشنطن في قصقصة «أظافر« طهران. لم يعد سرا أن طهران تشعر أكثر فأكثر أنها ما زالت محاصرة بطريقة اخف من السابق، ولكن بضغوط متواصلة، تؤكد لها يوما بعد يوم أنها ما زالت مقيدة وتحت المراقبة. عودة المتشددين إلى خطاب إقفال مضيق هرمز إشعار جديد بالعجز عن المجابهة السياسية التي تتطلب تقديم تنازلات حقيقية ومفتوحة على التغيير الداخلي والخارجي معا.

تملك ايران بالتأكيد استراتيجية متعددة المراحل والطبقات وخطط «أ» و»ب»، وذلك مثل كل الدول التي لا تتحرك اعتمادا على التحولات والضربات المتفرقة. طهران اليوم وغدا، مع المرشد آية الله علي خامنئي ومع «كتلة الأمل» لن تتخلى عن سوريا وموقعها فيها، مهما بلغت كلفتها. لكن يمكنها أن تقايض الأسد بثمن مرتفع في مرحلة معينة ليست اليوم. ما تريده طهران:

- أن يكون خط الدفاع عن حدودها بعيدا بأقصى ما يمكنها. بدلا من مواجهة «خصومها» على الحدود أو في «حرب ناعمة» في داخلها تواجهها وتلاحقهم بعيدا. هذه الاستراتيجية ناجحة خصوصا في الدول التي تشعر دائما أنها «محاصرة».

- خسارة ايران كليا في سوريا ممنوعة للنظام الإيراني، لان ترجمة ذلك خسارة «حزب الله» وبالتالي ابتعادها الجغرافي عن الحدود مع «فلسطين»، الذي عرفت كيف تستثمره أيديولوجيا وسياسيا بنجاح كبير.

لذلك ما تريده طهران وتسعى إليه هو استمرار وتطوير إمساكها الخط الاستراتيجي الممتد من بغداد إلى دمشق وصولا إلى بيروت. هذا الخط البري هو «وريد» لوجودها ووجود «حزب الله» في زمن تتصاعد فيه مصاعب ومخاطر الخطوط الجوية والبحرية.

هل تعني هذه الاستراتيجية، فقدان الأمل من إنتاج أي تغيير إيراني داخلي أي تغيير في سياستها الخارجية وتحديدا مع محيطها الجغرافي العربي؟ لم يعد أمام ايران مهما بلغ طموح المرشد آية الله علي خامنئي، مساحة للتدخل السلبي بقيادة الجنرال قاسم سليماني. 

كلما قوي وتدعّم خط الاعتدال داخليا ممثلا «بالترويكا»: الرؤساء هاشمي رفسنجاني وحسن روحاني ومحمد خاتمي ومعهم حسن الخميني يعني توجها قويا ومباشرا نحو الحوار مع الجوار والعالم والتفاوض السياسي والديبلوماسي.

«عاصفة الحزم» السعودية في اليمن، أنتجت خطا أحمر قابلا للتطوير والتمدد. الموقف السعودي الجديد كما ثبت ليس وليد انفعال أو حركة طارئة أو تكتيكا قابلا للتراجع. إنها استراتيجية متحركة ولو كانت كلفتها كبيرة في مواجهة التمدد الإيراني. يوما بعد يوم يتأكد أن ايران مضطرة للسير في مسار سياسي وديبلوماسي جديد.

لن تتبلور مفاعيل هذا المسار الجديد بسرعة، لأن التصعيد سيّد الموقف حتى الخريف القادم عندما يدخل الجميع وأولهم الولايات المتحدة الأمريكية مرحلة الخيارات النهائية في قلب السلطة التي تنتج الاستقرار وموازين جديدة وثابتة قادرة على صياغة مواقف يمكن لها وللآخرين البناء عليها.