الصدفة وحدها هي التي جعلت لبنان يتجه، إعتباراً من الاحد المقبل، نحو انتخابات بلدية لم يكن أي فريق سياسي لبناني يريدها، وحاول الجميع تأجيلها بشتى السبل، قبل ان يسلّموا مكرهين بالحاجة الى إحترام موعدها.. بدافع الرغبة في المزايدة على الخصوم، أو في قياس مدى تدني شعبيتهم، وضعف قدرتهم على مواجهة جمهورهم.

  ما زال يصعب الحديث عن يد خارجية ضغطت من أجل إجراء هذا الاختبار “الديموقراطي” اللبناني، كما جرى في مرات عديدة سابقة، عندما كانت القوى السياسية تنهمك بصياغة مراسيم التمديد، وادارة الفراغ، بينما كانت العواصم المعنية تدفع نحو الاحتكام الى صناديق الاقتراع..لتجنب اللجوء الى الشارع. 

 هذه المرة جاءت من الخارج نصيحة روتينية تقليدية بإجراء الانتخابات البلدية في موعدها، لكنها لم تكن مرفقة بأي ضغوط ولا بأي شروط. كانت مجرد توصية بفتح مراكز الاقتراع لاحتواء غضب الجمهور وتململه، واطلاق نقاش شعبي، في حلقات مصغرة، حول الخدمات والبيئة والتنمية والتعليم.. وغيرها من العناوين غير السياسية.

لكن أحداً في الخارج لم يكن يصدق ان المسؤولين اللبنانيين سيلتزمون هذه المرة بمثل هذه النصيحة التي سبق ان إرسلت بإلحاح أشد، لكنها لم تحترم ابداً، عندما فرغ منصب رئاسة الجمهورية او عندما حان موعد إجراء الانتخابات النيابية. وهو ما أثار، ولا يزال يثير حيرة عربية ودولية، لا ترقى الى مستوى التفكير بالتدخل المباشر في هذه الشؤون اللبنانية.

من مفارقات القدر ان التحدي الاكبر الذي يواجه لبنان اليوم ، من وجهة نظر عربية ودولية، هو ملف النزوح السوري، الذي يشكل في الوقت نفسه حافزاً للحفاظ على الاستقرار اللبناني النسبي. بكلمة أخرى، فان مليوناً ونصف مليون نازح سوري يشكلون في آن واحد تهديداً للبنان وضماناً لهدوئه. وطالما ان الدولة اللبنانية بشكله الحالي البائس تُحسن، الى حد ما، إدارة هذا الملف الاهم الذي يشغل العالم كله، فانها ستظل تعرج حتى تنتهي الازمة السورية، وهي لن تسقط ولن تنهار.

الاعتقاد العربي والدولي راسخ بان النزوح السوري يشكل حماية للبنان اكثر مما يشكل خطراً عليه في الظرف الراهن. والمراجعة لهذه الفكرة لن تتم الا إذا إنطلقت المراكب المحملة بالنازحين السوريين من الموانىء اللبنانية باتجاه الشواطئ الاوروبية. وهو ما حصل في حالات نادرة جداً لا تقارن بما تشهده الموانىء التركية او المصرية او الليبية او اليونانية. 

في هذا السياق لا تظل الانتخابات البلدية مجرد غلطة إضافية إرتكبتها الطبقة السياسية اللبنانية التي كانت تتمنى وربما لا تزال تعمل من أجل التمديد للمجالس البلدية، بل ربما مقدمة لتطوير وتوسيع النقاش الداخلي حول ملف النزوح السوري الذي لا تستطيع اي بلدية في أي بقعة من لبنان ان تتجنبه. وهو نقاش ما زال يدور، على المستوى البلدي والوطني، حول ممارسات عنصرية تجاه النازحين الذين يُحرمون علناً من التجول ليلاً في بعض البلدات اللبنانية، وحول مبادرات أهلية لإغاثتهم ، بالتعاون مع هيئات ومنظمات عربية ودولية.

لا يعني ذلك ان النزوح السوري هو العنوان الرئيسي للانتخابات البلدية لكنه من العناوين المهمة جداً، في المرحلة المقبلة. فتحُ مراكز الاقتراع إعتباراً من الاحد المقبل، كان وسيظل صدفة سياسية، لن يكون لها أي مفعول مؤثر على الشغور الرئاسي او على الفراغ النيابي، بل ربما ستساهم في تمديدهما الى أجل غير مسمى..وفي تعميق الهوة بين المجتمعات الاهلية وبين الطبقة السياسية. لكن ذلك لا يلغي حقيقة ان الانتخابات البلدية ستكون أشبه بخطوة أولى متواضعة في عملية تأسيس جديدة للدولة اللبنانية على إيقاعات الحرب السورية التي لا يزال اللبنانيون يختلفون بشكل يومي حول أضرارها ومكاسبها على طوائفهم ومذاهبهم..وبلدياتهم المدعوة الان الى تنظيم ذلك الاختلاف.