ليس بشّار الأسد أوّل طاغية في التاريخ، وليس تدمير حلب على فظاعته، وهو ما يُستكمَل بهمّة منقطعة النظير، أوّل تدمير لمدينة عظيمة، عربيّة كانت أو غير عربيّة.

 

 

وقد يقال إنّ مستبدّاً كصدّام حسين كان، في شخصه وشكله وتماسكه، أقدر على تمثيل الاستبداد وشخصنته قياساً بالخفّة والبعثرة اللتين تنمّ عنهما شخصيّة المستبدّ السوريّ.

 

 

مع ذلك فإنّ مزايا الاستبداد البشّاريّ تنبع من زمنها. فمثلما قيل إنّ الزمن الصناعيّ أكسب المحرقة الهتلريّة خصوصيّتها، يصحّ القول في يومنا الراهن إنّ العولمة وانتهاء الحرب الباردة يكسبان البشّاريّة، بوصفها طريقة في القتل المعمّم، خصوصيّتها وتميّزها.

 

 

ذاك أنّ الرئيس العراقيّ السابق دفع مرّتين ثمن عدم التكيّف مع مفاعيل الزمن العالميّ بسلمه وانفتاحه وانتعاش حقوق الإنسان فيه: المرّة الأولى، حين غزا الكويت فيما النظام الدوليّ القديم يتداعى وينهار، فأُخرج منها ضعيفاً ذليلاً يباشر احتضاره. أمّا المرّة الثانية، وهي بمعنى ما استكمال متأخّر لإخراجه من الكويت، فكانت إسقاطه في 2003. أمّا الرئيس السوريّ، في المقابل، فنجح في إخراج بلده من مفاعيل الزمن العالميّ، بقدر ما نجح هذا الزمن العالميّ نفسه في إشاحة وجهه عن مأساة السوريّين والتفلّت من مسؤوليّتها. وفي هذا كُتب للنظام الأسديّ، في امتداده من حافظ إلى نجله، عمران: عمر التوافق مع الحرب الباردة والعزلة الاقتصاديّة والتوتاليتاريّات، ثمّ عمر التوافق مع ما بعد سقوط تلك الحرب وقيام الديموقراطيّات الجديدة وانفتاح الأسواق ممّا وُجد من يسمّيه «نهاية التاريخ».

 

 

وقد يكون الأقرب إلى بشّار، في هذا المعنى، طوطم كوريا الشماليّة كيم جونغ أون الذي، هو أيضاً، ورث أباه كيم جونغ إيل، الذي ورث بدوره أباه كيم إيل سونغ، أحد أبرز المصادر التي تأثّر بها الأسد الأب. لكنّ الفارق بين بشّار وجونغ أون أنّ الثاني مبدئيّ يقاوم الزمن الجديد وينجح حتّى إشعار آخر في مقاومته، مستنداً إلى التركة الصلبة التي ورثها عن والده وعن جدّه. أمّا بشّار فمارس نوعاً من التكيّف الرخيص ساعده فيه تنظيم «داعش»، حيث ترقى وحشيّته إلى شرط ضروريّ لموضعة بشّار في زمن العالم، بقدر ما ساعدته الميوعة الضاربة أطنابها في هذا العالم نتيجةً لظروف انتقاليّة تكاد تطاول كلّ العلاقات والمعاني، بما فيها السياسيّ منها. هكذا يبدو الرئيس السوريّ حصيلة جمع بين قوّة «داعش» ومكامن الضعف والتردّد في هذا العالم.

 

 

فهو، مثلاً، يدمّر حلب، جرياً على النهج القديم وتطويراً له. إلاّ أنّه، في الوقت ذاته، يُرسَم مدافعاً عن الأقلّيّات والتعدّد، بل عن الحضارة والحضاريّ، لا سيّما بعد استعادته السيطرة العسكريّة على تدمر التي تُرك لحجارتها الرومانيّة أن تحجب سجنها الرهيب.

 

 

لكنْ مثلما كانت النازيّة ومحرقتها وصمة على جبين الحضارة الصناعيّة وعقلنتها، وصمةً دفعت بعض أكبر العقول في أوروبا إلى الشكّ بالتقدّم التقنيّ ذاته، فإنّ التساهل مع بشّار الأسد يرقى إلى وصمة على جبين عالم العولمة والانفتاح وما بعد الحروب الكونيّة.

 

 

وليس مبالغة بالتالي أن يُعدّ الأسد انتكاسة لإنجازات إنسانيّة رائعة من نوع التدخّل الإنسانيّ ضدّاً على مبدأ السيادة القوميّة. بل ليس مبالغة أن يبدو هذا الطوطم السوريّ سبب يأس بتقدّم العالم وبشفافيّة انعكاس هذا التقدّم على إنسانيّته وعلى وحدة الزمن العالميّ.

 

 

فسوريّة اليوم، بعنف الأسد وما يستجرّه من عنف مقابل، هي الامتحان الأوّل لعالميّة العالم. وحتّى إشعار آخر، يبدو أنّ الفشل لا يزال يتفوّق على النجاح.

 

 

وفي هذه المعاني جميعاً سوف يحتلّ بشّار موقعاً مؤكّداً في تاريخ ينتابه الخجل بأنّه التاريخ.