فاجأ الرئيس نبيه بري الجميع وكانت له "مفاجأة مزدوجة": الأولى، عندما عقد مؤتمرا صحافيا، وهو نادرا جدا ما يفعل ذلك إلا في حالات استثنائية وأوضاع مفصلية حساسة.. والثانية، عندما ذهب في الاتجاه المعاكس للتوقعات ولمواقفه في الأيام الأخيرة وطرح مبادرة جديدة تخالف المبادرة التي طرحها على طاولة الحوار الوطني.

ولم يكن الرئيس بري ليقدم على خطوة تراجعية احتوائية، لولا جملة أسباب وعوامل تضافرت وحاصرت مبادرته التشريعية وحملته على تعديل وجهته ومراجعة حساباته ومن أبرزها:

1 ـ موقف الكتل المسيحية الأساسية ("التيار الوطني الحر و”القوات اللبنانية" و"الكتائب") التي أظهرت استعدادا للسير حتى النهاية في موقفها المعترض على"لتشريع" والمتمسك بأولوية قانون الإنتخاب.. ومقابل هذا الموقف المتشدد، لم يتوافر موقف مسيحي مضاد من جانب المسيحيين المستقلين وبغطاء من بكركي يوجد حد أدنى من غطاء مسيحي مفقود للجلسة التشريعية، لا بل بدا ميل واضح لدى نواب مستقلين الى مراعاة ومجاراة الموقف المسيحي العام، فالبعض أبلغ بري بأنه لن يحضر والبعض الآخر ناشده عدم الدعوة الى جلسة تشريعية تشكل إحراجا لهم وتصعيدا للوضع.

2 ـ موقف "كتلة المستقبل" التي قررت، بعد تأرجح، إلتزام تعهد كانت قطعته لـ"القوات اللبنانية" في شباط الماضي (عندما عقدت جلسة تشريعية يتيمة أدرج عليها قانون إستعادة الجنسية) بعدم المشاركة في أي جلسة لا يكون قانون الإنتخاب على رأس جدول أعمالها.

3 ـ موقف "حزب الله" الذي يخوض مواجهة كبيرة في المنطقة ويحكم سياسته الداخلية عاملان: الإستقرار الذي هو في صلب أهداف الحوار وحكومة الشراكة مع “المستقبل”، والحالة المسيحية الحليفة له عبر العماد ميشال عون والتي لا يريد خسارتها وإضعافها.

والحزب يهمه تنظيم الخلاف بين حليفيه بري وعون ، وعدم حصول إصطدام بينهما.. في الدلالات والمعاني المترتبة على "مبادرة بري 2" (فتح ملف قانون الإنتخاب) بعدما وضعت "مبادرة بري 1" جانبا (فتح المجلس) يجدر التوقف عند استنتاجين أساسيين:

– الأول، أن واقعا سياسيا جديدا قد نشأ، وأن تغييرا في قواعد اللعبة قد حصل بعد إتفاق معراب بين عون وجعجع. فلم يعد ممكنا تجاهل أو تجاوز هذا التحالف وتأثيراته، خصوصا انه يذهب الى أبعد من رئاسة الجمهورية، والى أبعد من "تفعيل التشريع" الذي يريده بري ليطرح مسألة تفعيل وتحسين الوضع المسيحي في الحكم والدولة.

الإتفاق المسيحي حاصل على أن قانون الإنتخاب هو الممر الإجباري لهذه العملية والبند الأول في خريطة الطريق الى استعادة الدور والحضور والتوازن.. وحاصل أيضا على أن هذا هو الوقت المناسب للحصول على قانون الإنتخاب ، فإذا لم يكن الضغط مجديا من أجل الإفراج عن رئاسة الجمهورية الواقعة تحت تأثيرات إقليمية، فإنه سيكون ممكنا ومجديا من أجل إصدار قانون الإنتخاب.. يضاف الى ذلك أن ما هو ممكن ومستطاع حاليا قد لا يكون كذلك عندما تتوافر ظروف التسوية السياسية الشاملة التي ستجري أساسا بين السنة (المستقبل) والشيعة (حزب الله).

– الثاني، أنه مع انتهاء مرحلة "8 و14 آذار" بإعتراف الرئيس بري الذي نعى الفريقين السياسيين وأعلن أنهما في حال "موت سريري"، فإن الخارطة السياسية الجديدة أصبحت موزعة، طائفيا لا سياسيا، بين 3 لاعبين أساسيين: شيعي (حزب الله)، سني (المستقبل)، مسيحي (ثنائية عون جعجع).

هذه الخارطة الجديدة أوجدت توازنا جديدا وقواعد لعبة جديدة:

ـ من جهة أدت الى ازدياد تأثير العامل المسيحي وحضوره في المعادلة بعدما كان موزعا بين محورين وقوتين، وبالتالي فإن تحالف معراب نجح في إقامة سد في وجه عملية إنتخاب فرنجية ، وينجح الآن في فرض قانون الإنتخاب على جدول أعمال المرحلة، مع العلم أن مكان النقاش الطبيعي في شأنه هو "الحوار الوطني".

ـ من جهة أخرى، أدى الوضع الجديد الى تراجع ملحوظ في قدرات بري السياسية لجهة التحكم باللعبة وإدارة دفتها.

فلم يعد بري يمتلك وحده مفتاح التحكم وقدرة السيطرة على الوضع، حتى قدرة اجتراح المخارج وإخراج "الأرانب".. الرئيس بري فقد "سحره" وأوهنته الضغوط والمتاعب على أنواعها.. مثلما أوهنت حليفه وليد جنبلاط الذي أعلن قرفه ويأسه ورغبته في التقاعد السياسي المبكر.. جنبلاط الذي كان قوة مرجحة عندما كان الإنقسام بين "8 و14 آذار"، لم يعد كذلك عندما صار الانقسام بين 3 كتل طائفية.

وربما يأخذ اللاعب المسيحي في هذه الفترة دور جنبلاط كعامل توازن وترجيح في الإنقسام والصراع السني ـ الشيعي، وهذا سبب إضافي يحث المسيحيين على فتح معركتهم المطلبية بأن يأخذوا من الطرفين لحسابهم، قبل أن يصبح اتفاق الطرفين على حسابهم.

الانباء